في منطقة، هي أشبه بغابة، محكومة بأنظمة وراثية ذات ملكيات مطلقة، وديكتاتوريات عسكرية، وما يتصل بكل ذلك من استبداد وتعسف وفساد وتبعية وانتهاك لحقوق الإنسان والجماعات (الأقليات خصوصاً)، في مثل هذا الوضع في المنطقة، بدا النظام اللبناني مساحة حرية أو بشكل أدق «أعور بين عميان»، حسب المثل الشعبي.
أتقن أرباب هذا النظام الترويج لإنجازهم «الفريد»، محيلين هذه الفرادة إلى طبيعة نظامه القائم على المحاصصة الطائفية والمذهبية. لم يعبأ هؤلاء لمساوئ النظام المذكور العديدة والخطيرة، وخصوصاً لما يستدعيه من علاقة تبعية للقوى الخارجية. ومعروف أن هذه الأخيرة هي التي تحرس توازنات النظام وتستخدمها في الوقت عينه في صراعاتها الإقليمية بما يهدر سيادة البلد، ويهدد استقراره، ويجعل وحدته الوطنية هشة ومعلقة على فئويات الداخل وأطماع الخارج.
مناخ «الحرية في لبنان» الذي جرى التباهي به، ارتبط دائماً بفوضى لا مثيل لها. وهو عرّض أمن البلاد لخضات خطيرة وتوترات أهلية كان أخطرها وأطولها وأكثرها أذى اندلاع حرب أهلية امتدت خمسة عشر عاماً (1975 - 1990) وما زال يعاني اللبنانيون ولبنان من ويلاتها المدمِّرة حتى يومنا هذا.
خسائر هذه الحرب الهائلة، البشرية والمادية والاجتماعية والحضارية والأخلاقية، لم تكن كافية لصرف قوى المحاصصة عن التمسك بالنظام الذي ولدت في كنفه. وما جرى استخلاصه في اتفاق وقف الحرب الأهلية لعام 1989 («اتفاق الطائف») ومن ثم تثبيته في دستور البلاد، قد جرى منع اعتماده، والتالي منع تطبيقه، طيلة أكثر من عقدين ونصف العقد من الزمن، من قبل تلك القوى نفسها. وهكذا ما يزال لبنان يدور في الدوامة نفسها: تكريس مبدأ المحاصصة المانع لبناء الدولة لحساب الدويلات، والصراع على الحصص بالاستقواء بالخارج: سواء لتعديل تلك الحصص أو تثبيتها.
تدهورت سمعة «المعجزة اللبنانية» بعد تكرار الحروب والتوترات الأمنية وما أديا إليه من انقسامات وذبح على الهوية وفرز سكاني وقتل وتدمير... ورغم كل ذلك، والأرجح بسبب كل ذلك، أقدمت قوى نافذة في العالم وفي المنطقة، على نقل «التجربة اللبنانية» (التي شُبهت غالباً بالوباء) إلى بلدان أخرى خضعت للغزو وللاحتلال كالعراق.
ثمّ إنه رغم طوفان التعصب والتطرف الديني على غرار ما حصل في معظم العالم العربي والإسلامي بكل ما أدى إليه من كوارث ومجازر وجرائم وخسائر، ورغم تحوّل لبنان إلى دولة شبه فاشلة، مفككة، في منطقة تحترق بالحروب والنزاعات والتدخلات الخارجية، فإن أطراف المحاصصة اللبنانيين يواصلون نهجهم وصراعاتهم وكأن الدنيا بألف خير. من انتخاب رئيس الجمهورية بعد تعطيل وتأجيل، إلى إقرار قانون جديد للانتخابات بعد تجاوز الموعد الدستوري في ولاية كاملة ممددة، إلى... تأجيل التعيينات في جلسة يوم الأربعاء الماضي... يتجدد صراع فئوي مدمر على المواقع والصلاحيات والسياسات والعلاقات... من أصغرها إلى أكبرها. والسيئ أيضاً، في هذا الأمر، أن وعد «الإصلاح والتغيير» قد اختُصر بتعديل التوازنات القائمة التي يسعى العهد الجديد وفريقه الحزبي والسياسي إلى تعديلها بذريعة استعادة «الحقوق» وفق منطق طائفي محض. إن التذرع بأنه لا إصلاح من دون توازن «ميثاقي» طائفي، هو، في الواقع، «عذر أقبح من ذنب»! تشير كل التجارب إلى أن الحصول على امتيازات فئوية وطائفية قد اقترن دائماً بالسعي الدؤوب لتثبيتها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، الداخلية والخارجية. وسيقود ذلك في المقابل، إلى استنفار قوى متضررة لممارسة الأسلوب نفسه، من خلال عناصر وأساليب داخلية وخارجية. ولقد حصل ذلك بالأمس، وسيحصل في اليوم والغد على حساب سلامة العلاقات بين اللبنانيين وعلى حساب بناء دولة قانون ومؤسسات، دولة سيدة ومستقلة وقادرة على التعبير عن مصالح شعبها، بالتي هي أعدل وأحسن، في هذه المرحلة الخطيرة المضطربة التي تتهدد كل دول المنطقة ومنها لبنان بالتأكيد.
ليس من أمل في أن تفعل القوى الحاكمة أي شيء إيجابي لإنقاذ البلاد من كوارث منظومة المحاصصة القائمة، وعلى المستويات كافة. على العكس من ذلك فإن تلك السلبيات مرشحة للتفاقم عبر حلقات جديدة من الصراع والتعطيل والتوتر ونشر الفوضى في البلاد. كذلك فإن مثل هذا الوضع سيجعل لبنان واللبنانيين لقمة سائغة لقوى التطرف. وهي قوى ستبقى ناشطة، بأشكال إرهابية متنوعة، خصوصاً في البيئات التي تعاني من الانقسام والتوترات على أساس طائفي ومذهبي...
وفي امتداد ذلك ليس من المتوقع أن تحل أزمات «عادية» استعصت وعانى ويعاني منها اللبنانيون لسنوات طويلة. منها مشكلة الخدمات بكل أشكالها التي تخضع عقودها وتلزيماتها لأبشع أنواع الفساد والنهب في نطاق المحاصصة الوقحة والمتجاهلة لأبسط مطالب المواطن وحقوقه على السلطة وأجهزتها. ليس من المبالغة إضافة أن قانون الانتخابات المقرّ الشهر الماضي لا يؤسس، في مضمونه وتناقضاته المبنيين على اعتبارات طائفية وفئوية، لاستقرار تمثيلي وتشريعي. وهو سيكون، على الأرجح، مرة جديدة موضع تجاذب وصراعات لا يستبعد معها أن تؤدي إلى تعديلات نحو الأسوأ، أو إلى تأجيل وتمديد جديدين، ما يعرّض البلاد لفوضى شاملة في ظروف احتمال استمرار صراع المرجعيات الإقليمية للقوى المحلية، إلى أجل غير محدود.
مثل هذين الواقع والوقائع، يولّدان استياء شعبياً متزايداً. لكن هذا الاستياء يبقى ضعيفاً وغير مرشّح لللاتساع في غياب تبلور مرجعية سياسية شعبية وطنية تتمتع بالصدقية والفعالية.
لن يحصل ذلك بغياب أطر مركزية ومناطقية مناسبة، وبغياب برنامج حدّ أدنى تتفق عليه قوى وشخصيات متنوعة تتشكل في تيار وطني واسع تحت عنوان البديل الديمقراطي المدني الإنقاذي. وهو صيغة ينبغي أن تتولى الكفاح من أجل تعبئة قوى متضررة قادرة، تباعاً، على تبديل التوازنات وعلى اختراق حالة الحصار والاحتكار المتمادية منذ عقود حتى اليوم.
إن اللبنانيين الذين قدموا إنجازات مرموقة في مجالات التحرير والانفتاح والمبادرة يستطيعون تطوير ذلك عبر اشتقاق ريادة خلاقة في مجالات التقدم والمساواة والتنوع والديموقرطية: تلك حاجة مصيرية لبنانية وعربية على حد سواء!
* كاتب وسياسي لبناني