لأول مرّة في تاريخ الإدارة اللبنانية، يوجّه وزير عقوبة تأديبية إلى مدير عام بموجب وثيقة إحالة بعنوان عريض «كتاب تأنيب»، ويصف في هذا الكتاب المدير العام بأنه يجترّ الكلام، ويجهل بالقوانين، ويحتاج إلى إعادة تأهيل، وفي خاتمة الكتاب يؤكّد الوزير أنه يؤنب المدير العام تأنيباً لاحقاً لتأنيب وتنبيه.
كل هذا الكمّ من التجريح سببه حسبما ورد في موضوع الإحالة هو للرد على كتابَي المدير العام الذي أبدى فيهما المدير العام ملاحظاته حول مشروعَي عقدَي اتفاق بالتراضي لتقديم خدمات استشارية لمؤسسة كهرباء لبنان.
ومن عنوان المشروعين ودون الدخول في التفاصيل، يبدو واضحاً أن المشروعين اللذين أبدى المدير العام ملاحظاته حولهما، واستوجب لذلك العقوبة التأديبية، لم يكن بسبب سعي المدير العام إلى عرقلة عمل مؤسسة كهرباء لبنان، ولا كان بسبب إفشاله خطة إصلاح قطاع الكهرباء، بل استوجب المدير العام هذه العقوبة بسبب احتجاجه على تكليف فريق استشاري تقديم خدمة استشارية للمؤسسة، ما يجعلنا نستذكر ما سبق أن كتبته حول حماية المال العام، ولنُعِد طرح السؤال: متى يتوقف هذا النوع من العقود التي تكلّف الخزينة مبالغ هائلة من دون أي جدوى، متى يتوقف الوزراء والمؤسسات العامة عن تكليف مكاتب استشارية لإعداد دراسات لإصلاح قطاع معيّن، وهي دراسات للأسف لم تستخدم يوماً، وللعلم فإن حجم الإنفاق على الدراسات في قطاعي الكهرباء والنفايات يفوق الخيال، ومع ذلك لا نرى بهذين القطاعين أي تحسّن أو جودة خدمة، بل على العكس إن قطاع الكهرباء الذي تتولى ذات الهيئة إدارته منذ نحو 17 عاماً هو من سيئ إلى أسوأ، ولم تفكّر الإدارة بتغيير الطاقم الحاكم على هذه المؤسسة، بل تعمد إلى إبقاء هذا الفريق وتطعيمه بخدمات شركات استشارية تزيد الهدر والإنفاق غير المجدي.
هذا هو سبب اعتراض المدير العام المؤنَّب، لقد أطلق صرخة لوقف هدر المال العام على خدمات استشارية لا تؤدي أي دورٍ إصلاحي، وهو لم يرتكب جريمة عندما طلب استشارة مجلس الخدمة المدنية أو ديوان المحاسبة لبيان الرأي حول صحة وقانونية التعاقد على خدمات استشارية غير منتجة وغير مجدية برأيه.
لم يحتمل الوزير هذا الاعتراض، ووجه إلى مديرٍ عامٍ قادمٍ من عالم القانون والإدارة أبشع التأنيب والإساءة، ولم يتنبه معالي الوزير إلى أن موظفي الفئة الأولى القادمون من مجلس شورى الدولة أو ديوان المحاسبة، هم المثال الذي يحتذى للإدارة اللبنانية السليمة، ويفترض أن يكونوا مرجعاً استشارياً أول للوزراء الذين يرغبون فعلاً في تطبيق القانون والدستور.
ولكن يبدو أن الوزراء يعتقدون أنهم سلاطين في إداراتهم، وأن عليهم الأمر، وعلى الجميع الطاعة. لكن للأسف هذا الأمر غير متاح لهم في القانون اللبناني، لأن المدير العام في قانون تنظيم الإدارات العامة هو ركن أساسي في الإدارة اللبنانية، وله صلاحيات خاصة يمارسها بصفة تقريرية وصلاحيات أخرى يمارسها بصفة تحضيرية لمقررات الوزير، وفي الحالتين لا يمكن إلغاء موقعيته أو فرض أمرٍ عليه يعتقد أنه مخالف للقوانين. ولقد سبق لأحد المديرين العامين أن أوضح هذه العلاقة في جملة شهيرة مفادها: أن علينا تطبيق القرارات وفق أحكام القانون والدستور، لا أن نطوّع القانون وفق مضمون القرار.
لذا، إذا كان للوزير أن يقرر، فإن للمدير العام أن يمارس صلاحياته، فله أن يرفض ويلفت نظر الوزير إلى المخالفة أو يوافق، وإذا أصرّ الوزير على موقفه، فإن للمدير العام صلاحية إحالة الملف على التفتيش المركزي وديوان المحاسبة.
وحيث إنه في ظلّ القوانين النافذة ووجود مديرين عامين أمثال السيد غسان بيضون يرفضون الخضوع والمسايرة على حساب القانون، فإنني ومنعاً لكتب تأنيبٍ مشابهة تمسّ بسمعة القيادة الإدارية اللبنانية، أقترح تعديل القوانين المرعية الإجراء وإلغاء مواقع القيادات الإدارية ووضع نظام الوزير الباشا، الذي يأمر وعلى الجميع الخضوع والطاعة.

*أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية والمعهد الوطني للإدارة