في كتابه «قصة سوريا» (دار غيلغاميش/ لندن ـــ The Story of Syria)، يؤكد غيث ارمنازي، ممثل الجامعة العربية الأسبق في المملكة المتحدة، أنّ الرئيس السوري بشار الأسد لم يَرْغب بالتفاوض مع إسرائيل وإكمال ما بدأه والده الرئيس الأسبق حافظ الأسد. ليس فقط لإدراكه بأن إسرائيل تراوغ ولا تلتزم اتفاقاتها (حتى في ظل قيادة أقل تطرفاً من القيادة الحالية) بل لأن وزير الدفاع ورئيس الحكومة الإسرائيلي السابق ارييل شارون نفَّذَ عرقلة متعمّدة لهذا المشروع التفاوضي عندما اقتحم المسجد الأقصى في فترة قريبة زمنياً من فترة تسلم بشار السلطة في سوريا، وحَرّضَ (في اقتحامه هذا) الشعب الفلسطيني على إطلاق انتفاضته الثانية التي أشعلت الأوضاع في المنطقة عموماً.
يشير ارمنازي في الفصل العاشر من الكتاب إلى أنّ شارون أسهم أيضاً في عرقلة أي تعاون قد تقدّمه سوريا لأميركا بعد تفجيرات 11 ايلول (سبتمبر)2001 في نيويورك وواشنطن، لأنه كان يسعى لوضع «حزب الله» و«حماس» و«منظمة الجهاد الإسلامي» في مرتبة واحدة مع «القاعدة» (أي ما تسعى إلى فعله القيادتان الأميركية والإسرائيلية وحلفاؤهما حالياً).

أمّا دافع القيادة الليكودية الإسرائيلية، فكان في فترة شارون (وما زال حالياً) تنفيذ مشاريع إسرائيل الاستيطانية وتثبيت الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية الذي تمَّ في عام 1967.
ويرى المؤلف أنّ سياسات شارون آنذاك، ومن قبله هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأميركي السابق) خلال حرب 1973، أسهمت في إعادة الانقسامات بين الدول العربية التي توحّدت جميعها دعماً لسوريا ومصر في «حرب أكتوبر» التي هدفت إلى استرداد الأراضي العربية والأماكن المقدسة التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967. ومثَّلّ هذا القرار العربي الموحد حدثاً استثنائياً في تلك الفترة يصعب حدوثه مرة أخرى، حسب ارمنازي. ولعل ما يحدث حالياً في أجواء منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي يحقق رغبات شارون التوسعية ومعه كبار مؤيدي إسرائيل في أميركا إلى درجة أكبر.
ويكتسب الفصل التاسع من كتاب أرمنازي الذي يركّز على فترة حكم الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد (1970-2000) أهمية خاصة لأنّه يلقي الضوء على نجاح كيسنجر في دفع الرئيس المصري أنور السادات إلى التخلي عن تحالفه مع سوريا وإقناعه في الإفراط بالإقدام على خيار التفاوض التنازلي مع إسرائيل وتوقيع الاتفاقات المتسرّعة والثقة بقيادتها وبكيسنجر.

يتحدث الفصل الأول عن سوريا في النصف الأول من القرن العشرين

الرئيس حافظ الأسد، من جهته ــ وفق ما يقول أرمنازي في الكتاب ــ سعى إلى تحويل سوريا إلى دولة منفتحة على الغرب وعلى أميركا ولكن من دون الارتماء في أحضان أميركا وإسرائيل. وقد حسَّنَ علاقات بلاده بالدول الخليجية العربية وانفتح إلى درجة أكبر على المعسكر السياسي الأميركي والغربي فيما كان النظام السوري (الذي سبق نظام حافظ الأسد) بقيادة صلاح جديد مرتبطاً إلى درجة قصوى بالنفوذ السوفياتي ومنغلقاً إلى حدٍ ما عن باقي العالم.
وقرّر حافظ الأسد التعاون مع الرئيس المصري السادات وخَطّطا معاً لحرب اكتوبر 1973 ونجحا في تحقيق المكاسب في المرحلة الأولى. لكن معظم هذه المكاسب تمّت خسارتها بسبب تغيير السادات لأجندته وتوقفه عن دعم حليفه السوري ميدانياً خلال المعركة نظراً إلى أن خسارة الجيش المصري بعض المواقع دفعت الرئيس المصري للخضوع لحنكة هنري كيسنجر الذي أقنعه بأنه سيحصل على ما يريد عبر المفاوضات مع إسرائيل ولأن السادات (حسب المؤلف) كانت لديه أجندة مختلفة عن أجندة الأسد. فالأسد أراد استعادة الجولان السوري، ثم فرض اتفاقية سلام، مدعومة من جميع الدول العربية، على إسرائيل. أما السادات، فاكتفى بما حققه ميدانياً وبُهِرَ بمدى التأييد العالمي (وخصوصاً الأميركي) لخطواته السياسية بما في ذلك عقدهُ السلام المنفرد مع إسرائيل في كامب دايفيد وقيامه بزيارة لإسرائيل خَطَبَ خلالها في الكنيست الإسرائيلي.
بعد فشله في تحقيق أجندته في الحرب، حاول حافظ الأسد التفاوض (بالتنسيق مع الدول العربية الأخرى) وبطريقة تقبلها الشعوب العربية الإسلامية، برأي المؤلف. وإذا كان ارمنازي تَجَنّبَ انتقاد الأسد الأب على أخطائه، فإنه لم يوفر بشار الأسد من بعض الانتقادات حول الطريقة التي تعامل فيها نظامه مع متظاهري مدينة درعا في عام 2011.
بالرغم من أنّ الكاتب يوضح بأنّ المعارضة الدولية التي تشنّها أميركا وبعض الدول الغربية وحلفاؤهما الإقليميين ضد النظام السوري الحالي تعود لأن بشار الأسد فَضّلَ التعاون مع «حزب الله» اللبناني وإيران وروسيا ورَفَضَ التفاوض مع إسرائيل في ظل فرضها الشروط غير المقبولة والمجحفة بحق الفلسطينيين والعرب، ولكونه أيَّدَ «حزب الله» معنوياً ومادياً في مواجهة إسرائيل في حرب 2006، فإن ارمنازي يقول بأنّ أحد أهمّ أخطاء الرئيس السوري الحالي هو أنّه في بعض الأحيان لم يستغل الفرص المتاحة أمامه عندما عُرضت عليه، وبأنه أخطأَ بعد التظاهرات «السلمية» التي حدثت في مدينة درعا (جنوب دمشق) وقُمعت بشدة من جانب الأجهزة الأمنية السورية. بدلاً من أن يعلن في خطابه آنذاك أنّه سيعاقب المسؤولين عن قمع المتظاهرين بقسوة ويندد بقادة هذه الأجهزة الذين بالغوا في استخدام العنف، وبالتالي يحظى بتأييد أهالي وأقارب المتظاهرين، فإنه تَحدّث عن مؤامرة دولية وإقليمية ضد سوريا. ويعتبر ارمنازي أنّه لو حاول الرئيس بشار الأسد ترطيب الأجواء آنذاك، كما كان يعزم أن يفعل، لحصل على التأييد الشعبي بدلاً من حصول التصعيد الذي حصل في سائر أنحاء سوريا في آذار (مارس) 2011 ضد نظامه.
يشير ارمنازي في الكتاب إلى أنّ الأسد كان سيلقي خطاباً مهدئاً للمشاعر بعد تظاهرات درعا «السلمية» التي قُمعت، لكن جهات محيطة به تدّخلت وأقنعته بأنّه سيظهر بمظهر ضعيف إذا فعل ذلك، وسيلقى المصير الذي لقيه الرئيس المصري السابق حسني مبارك والرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي عندما أعلنا نيتّهما تعديل مواقفهما، ولكن التظاهرات ضدهما تصاعدت برغم ذلك واضطرا إلى الاستقالة.
ويؤكد المؤلف أنّ الراغبين في استمرار الصراع في سوريا والمستفيدين من تأججّه كُثرٌ، وهم لم يتخلوا عن مشاريعهم، خصوصاً أولئك الذين حوَلوا الصراع هناك إلى مواجهة سنية شيعية. كما يعتبر أرمنازي أنّ «داعش» تمَّ استخدامه من قبل جميع الفئات المتنازعة على الساحة السورية (الفئات الداخلية والخارجية) لتبرير مواقفها وتحقيق غاياتها.
ويكتسب الجزء الأول من الكتاب أهمية خاصة، إذ يتحدث عن سوريا في مرحلة النصف الأول من القرن العشرين. علماً أنّ غيث ارمنازي هو نجل نجيب ارمنازي، أحد كبار دبلوماسيي سوريا في تلك المرحلة، وعمّه علي ارمنازي كان أحد شهداء القمع العثماني التركي في سوريا ولبنان، وهو من الأشخاص الذين أعدمهم الحاكم العثماني التركي جمال باشا (الملقب بالسفاح) بسبب مواقفهم المناهضة للهيمنة العثمانية على المنطقة في عام 1915. وقد أهدى المؤلف كتابه إلى ذكرى والده وعمه.
وفي الفصول الأولى من الكتاب، يتحدّث ارمنازي عن الصراع الفرنسي _ البريطاني للهيمنة على سوريا خلال وبعد فترة الانتداب، مشيراً إلى أنّ بريطانيا حاولت ضبط الهيمنة الفرنسية الكاملة على سوريا ولبنان وأيّدت بعض الزعماء الوطنيين في البلدين، وأسهمت في حصول البلدين على استقلالهما رغم أنّ فرنسا تركتهما مرغمة (لبنان في عام 1943 وسوريا في عام 1946)، وكانت تفضل استمرار الانتداب الفرنسي فيهما لفترة أطول.