لم يكن مفاجئاً إعلان تهدئة في الجنوب السوري، إذ إن المحادثات الساعية إليها تميزت بوتيرة عالية وجدّية لم تكن موجودة في سياق مفاوضات الحرب السابقة. وفي منتصف أيار الماضي، بدأت المحادثات الثلاثية بين روسيا وأميركا والأردن تأخذ مساراً جدّياً على طريق التوصل الى حل جزئي يتعلق بالجنوب. النتيجة الأولى كانت مذكّرة تفاهم ثلاثية في حزيران الماضي، لم ترقَ حينها الى مستوى الوثيقة ولم يكتب لها النجاح، غير أن الأطراف الثلاثة لم يهملوا هذا الملف، وتجاوز الروس مطلبهم المتعلق بإدخال هذه المذكرة ضمن مفاوضات أستانا، ووافقوا مع الأميركيين على عقد اتفاق مبدئي حول الجنوب، يتضمن مذكرة التفاهم السابقة.
تساؤلات حول الاتفاق

رغم الإعلان عن الاتفاق، بقيت بنوده غامضة وبعيدة عن الإعلام، والبند الوحيد الذي طبّق فعلاً هو وقف إطلاق النار. وانتشرت تسريبات عدة حول بنوده، غير أنها لم تثبت حتى اليوم من مصادر رسمية، وبقيت في سياق تسريبات إعلامية، وخصوصاً مع ما يقابلها من واقع معاكس في الميدان الجنوبي، يُظهر ضعفها وعدم دقتها. وقف الأعمال القتالية بين الجيش السوري والفصائل المسلحة، كان البند الأول، وهو مفعّل من تاريخ إقرار الاتفاق حتى اليوم. أما التكهنات حول البنود الأخرى، فقد تحدثت عن جيب يبلغ عمقه أكثر من 30 كيلومتراً، خالياً تماماً من غير الجيش السوري، والمقصود هنا حزب الله والقوات الإيرانية العاملة في الجنوب. وفي هذا البند تحديداً، تلبية واضحة للمطالب الإسرائيلية بإبعاد «الخطر» عن «حدودها» مع سوريا. ولأن هذا البند لم يقرَّ بعد ولا يزال الحديث فيه قائماً، فقد لمّح المسؤولون الإسرائيليون إلى عدم ارتياحهم لكل تفاصيل الاتفاق المبهم، ريثما تظهر تفاصيله واضحة، وأكّدوا حرصهم على التمتع بالحرية الكاملة لمنع حزب الله وإيران من التمركز في الجنوب السوري.

يمكن عدّ الاتفاق بتوقيته الحالي
جيداً بالنسبة إلى الجيش السوري


وحول بنود أخرى، جرى الحديث عن إدخال مساعدات إنسانية وعودة اللاجئين من الأردن وإطلاق تبادل تجاري بين الطرفين، بالإضافة الى رفع العلم السوري على المؤسّسات العامة في المناطق المتفق عليها. كما يتعهّد الطرفان، الجيش والفصائل المسلحة، بمحاربة التنظيمات الإرهابية، في إشارة إلى «جيش خالد بن الوليد» المبايع لـ«داعش» والمتمركز في حوض اليرموك. هذه البنود كلها، لم يطبق منها شيء سوى وقف إطلاق النار. ولكن يبقى بند واحد وهو الأهم، وهو يقضي بنشر قوات من الشرطة العسكرية الروسية في مناطق «خطوط التماس» المتفق عليها، وإنشاء مركز مراقبة لتطبيق الاتفاق (أميركيّ ــ روسيّ) في عمّان. وفي هذا البند تحديداً، تلفت مصادر مطّلعة لـ«الأخبار» إلى أن «الحديث يطول في تفاصيله، وقد يكون السبب الأهم في تأخير تطبيق الاتفاق، أو حتى تعثّره». ويشرح المصدر قائلاً إن «الخطير هنا هو عدم وضوح الدور والموقف الإسرائيلي في الاتفاق ومنه، إذ ماذا لو اتهم الجيش الإسرائيلي السوريين بخرقه، هل سيقف مكتوف الأيدي؟ أم أنه سيوجه ضربة مباشرة لقوات الجيش؟ أم أن الأميركيين سيقومون بهذه المهمة؟ هذه نقاط تحتاج إلى توضيح قبل أي شيء آخر، هذا موضوع سيادة الدولة السورية».

الميدان هادئ إلى حين؟

قليلاً ما ينسحب غموض غرف التفاوض على الميدان. الميدان واضح، حتى وإن امتلأ بالركام والدخان المتصاعد، فإنه يبقى واضحاً لا لبس فيه. هنا الأصدقاء وهناك الأعداء، ولا شيء آخر. ويؤكد مصدر مطلع أن «الهدنة حتى الآن وضعها جيد، وخصوصاً في ريف درعا، إلا بعض الخروقات في مدينة درعا». المتاريس والسواتر لم تزل، وخطوط التماس باقية على حالها قبل الإعلان عن الاتفاق. الأكيد أن الجيش السوري لن ينسحب من أي من المناطق التي يسيطر عليها حالياً، بل هو يعزز دفاعاته ويعيد انتشاره تحسباً لأي تغير قد يطرأ على الجبهة. وتأكيداً على ذلك، يشير المصدر الميداني إلى أن «الجيش منذ اللحظة الأولى لوقف إطلاق النار بدأ بعملية تحصين وتعزيز لكل مواقعه على طول الجبهة، وأمر قواته بإعادة الانتشار والتموضع، والبقاء على جاهزية كاملة تحسّباً لأي طارئ».
الجيش كان يستعد لعملية في غرب مدينة درعا للسيطرة بهدف عزل الريف الغربي عن الشرقي، غير أن العملية انخفضت وتيرتها ثم توقّفت، إذ كانت تسير بالتوازي مع المفاوضات، وما إن رشحت نتائج إيجابية حتى أعلن الجيش هدنةً من طرف واحد، لم يلتزم بها المسلحون. كانت مبادرة حسن نية منحها الجيش للمفاوضين لتسهيل الوصول إلى اتفاق. ويرى مصدر عسكري سوري أن كل المصالحات واتفاقات التهدئة «هي لمصلحة الدولة والجيش». وفي السياق نفسه، علمت «الأخبار» أن الجيش «يعمل على إعادة تنظيم قواته، وهو يستعد لإخضاع جنوده وضباطه في الجنوب، لعملية تدريب وتأهيل لرفع مستوى الجاهزية. كما بدأ عملية نقد وتحليل للمرحلة السابقة عسكرياً وسياسياً، لاستخلاص العبر واستنتاج الدروس».
ويبدو الدور الإسرائيلي في هذا الاتفاق غير واضح بعد، إنما من الجليّ أنه كان على علم بتوقيته وعناوينه، إذ عمل على دفع المسلحين لمهاجمة مدينة البعث ومحيطها في محاولة لتوسيع حزام الأمان الذي يعمل على إنشائه منذ مدة، قبل إتمام الاتفاق، لكنه ووجه بالفشل رغم تدخله بشكل مباشر في المعركة. وفي معرض الحديث عن وضع الحدود مع الجولان المحتل، وكيفية ضبطها في حال الاتفاق، يشير مصدر مطلع لـ«الأخبار» إلى أن «قوات (الأندوف) على الأرجح سوف تعود إلى مراكزها على الحدود، لكن هذه الترجيحات لا تقابلها تحركات فعلية على الأرض، إذ لا دور يذكر لتلك القوات اليوم في المنطقة الحدودية». على المقلب الآخر، يؤكّد المصدر أن «الخبراء الروس موجودون في منطقة درعا، هم كثّفوا زياراتهم للمنطقة أخيراً، وعملوا على استطلاع خطوط التماس التي سينتشرون فيها، لمراقبة الهدنة، في حال تطبيق الاتفاق كاملاً». ويضيف أنه «يجري حالياً استكمال القوة (السورية) التي ستنتشر مع الشرطة العسكرية الروسية. وهي قوة من الجيش السوري، لكنها ستعمل تحت إمرة الروس».
ويمكن عد الاتفاق بتوقيته الحالي جيداً بالنسبة إلى الجيش السوري، إذ إنه يأتي بعد انتصاراته في منطقة ريف دمشق وإنهاء ملف داريا، بالإضافة الى السيطرة على خان الشيح وإحباط محاولة المسلحين لفتح طريق إمداد نحو ريف دمشق الجنوبي والجنوبي الغربي، ما أزال الخطر عن العاصمة دمشق. يضاف إلى ما سبق، الحفاظ على سيطرته على مدينة البعث وكسر المنطقة العازلة التي يهدف إليها الإسرائيلي. لكن المخاوف هنا، هي في المدة الزمنية التي من الممكن أن تمتد عليها المفاوضات الجارية، فمن يضمن استمرار وقف إطلاق النار مدة أطول؟ ومن يجبر الأميركيين على عدم المراوغة ــ كالعادة ــ من أجل تحصيل أكبر قدر من المكاسب الميدانية من خلال منح الفرص للمسلحين للقيام بعمليات عسكرية مباغتة أثناء الهدنة؟