يدين ما كان يُعرف بحزب البعث في لبنان (بجناحه العراقي) إلى هذا الرجل. عبد المجيد الرافعي ورفاقه كانوا مسؤولين عن دفع الفرع العراقي للحزب إلى مقدّمة العمل البعثي. الفرع السوري للحزب لم يصل يوماً إلى درجة الشعبيّة التي بلغها الفرع العراقي. ولهذا كان من أولويّات النظام السوري عندما دخل إلى لبنان القضاء على هذا الفرع وتصفية قادته جسديّاً.
جذب الفرع العراقي معظم المثقّفين والطلاب والكادحين على حدّ سواء، وكان ذلك قبل ان يسخى النظام الصدّامي في تمويل هذا الفرع وتسليحه. فيما لم يكن للفرع السوري ما يعطيه لمناصريه إلا العضلات، إلى ان دخل الجيش السوري إلى لبنان وقدّم لمناصريه حظوات وامتيازات متنوّعة لا تكلّف خزينة النظام السوري شيئاً. لكن عبد المجيد الرافعي كان ظاهرة فريدة في العمل السياسي في لبنان. عُرف في طرابلس بأنه طبيب الفقراء: كرّس عيادته للمحتاجين والمعوزين، كما ان دماثة خلقه جذبت اليه جيلاً أو اكثر من التقدميّين. لم تكن له مواكب طويلة، ولم يكن يحب الظهور والبروز، في مرحلة كان يُعدّ واحداً من أبرز قادتها. حتى في العمل البرلماني، كان الرافعي (الذي قضى سنوات مقيماًً بين باريس وبغداد وتطوّع للخدمة على الجبهة العراقيّة في الحرب الايرانيّة ــــ العراقيّة)، بقي بعيداً عن الاعلام وفضّل العمل من دون ضجيج أو ترويج ذاتي.
يروي أنطوان الدحداح، المدير العام للأمن العام في عهد سليمان فرنجيّة، قصّة انتخابات ١٩٧٢ (في كتاب نقولا ناصيف «سرّ الدولة»، ص 425)، وكيف استدعاه حكمت الشهابي (رئيس أركان الجيش السوري يومها) إلى دمشق على عجل كي يطلب من الحكومة اللبنانيّة رسميّاً إسقاط عبد المجيد الرافعي ورياض طه في الانتخابات المُقبلة. ويزعم الدحداح في روايته أن النظام اللبناني أكّد للنظام السوري ان الانتخابات ستكون ديموقراطيّة ونزيهة، لكن استطلاعات الحكم أكّدت يومها ان الرافعي سيفوز بسبب شعبيّته الكبيرة، وأن طه سيسقط، وهذا ما حدث. إلا أن رواية الدحداح غير أمينة أو صادقة، لأن الانتخابات في عهد فرنجيّة شابها الكثير من التدخّلات والتزوير (في صيدا، مثلاً، ضد معروف سعد عام ١٩٧٢، حيث وجدت جريدة «المحرّر» صناديق اقتراع لم تُحتسب، كما ان انتخابات الجنوب كانت دائماً تعزّز نفوذ كامل الأسعد، ولو بالقوّة). ولم يكن النظام يريد التدخّل لصالح رشيد كرامي في طرابلس لأنه كان من تركة «النهج» الشهابي، ولهذا لم تمانع في أن يفوز الرافعي. لكن الأرقام كانت مذهلة يومها: فاز الرافعي بـ ١٧٥١٧ صوتاً مقابل ١٦٩٧٤ صوتاً لرشيد كرامي و١٤٩٤٠ لأمين الحافظ. شكّلت النتيجة صدمة للنظام السياسي التقليدي، مثلما كان فوز مرشّح آخر غير رسمي لحزب البعث (الجناح نفسه) في صور (علي الخليل).
حزب البعث في جناحه العراقي له دور مطموس في التاريخ السياسي اللبناني المعاصر. كان للحزب نفوذ ودور كبيران في الجنوب اللبناني، وهو عمل ضد الاقطاع بشجاعة تفوق سلوك الحزب الشيوعي (الخجول والاصلاحي دائماً). وكان كامل الأسعد مهووساً بخطر النفوذ البعثي في الجنوب، حيث لعب موسى شعيب ورفاقه دوراً كبيراً في تنظيم الشباب اللبناني ضد النظام وضد رموز الاقطاع ونصرة للعمل الفدائي الفلسطيني. وتقييم هذا الحزب صعب لأن النظام السوري قتل عدداً من رموزه، بمن فيهم شعيب نفسه، بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان، وتحوّل الحزب إلى العمل السرّي. (أصبح عمل الحزب يقتصر يومها على تنظيم «جبهة التحرير العربيّة» ــــ الفرع الفلسطيني للفرع العراقي من حزب البعث).
كان الرافعي من أنصار الحركة الوطنيّة في لبنان، وكان صوته في المجلس النيابي مناصراً للقضايا العربيّة والتقدميّة. لكن الحقد المتبادل بين النظاميْن السوري والعراقي أثّرا في مسيرة الحزب. تصفية الحسابات بين النظاميْن كانت أهم من خدمة العقيدة، وعليه كان النظام العراقي مستعداً لأن يتحالف أوتوماتيكيّاً مع أي حركة أو حزب أو ميليشيا تعادي النظام السوري. هذه الحسابات أدخلت حزب البعث، والرافعي، في دائرة التحالف مع القوّات اللبنانيّة، وحتى مع بشير الجميّل قبل اغتياله وبعده. كان الرافعي قريباً من أمين الجميّل، وسكن في المنطقة الشرقيّة من بيروت، ودشّنت هذه العلاقة لتسليح وتمويل قوى اليمين اللبناني من قبل النظام العراقي (الذي كان قد موّل أحزاب اليسار في لبنان في بداية الحرب الأهليّة). لم يلعب الرافعي أي دور ضد نظام الجميّل، لا بل أيّده، كما انه لم يقترع ضد اتفاقيّة ١٧ أيّار. لم يقتل النظام السوري فقط حزب البعث في لبنان، بل قتلته حسابات صدّام حسين التي نقّلت في تحالفات الحزب كما تطلّب صراعه مع النظام السوري.
كان الرافعي من أواخر رموز قادة الأحزاب والقوى التقدميّة في لبنان في الستينيّات والسبعينيّات. لكنه، بخلاف كثيرين، لم يستغل منصبه ونفوذه يوماً، ولم يستغلّ حتى قربه من صدّام حسين كي يدخل في الـ«بزنس»، كما فعل كثيرون أدنى منه مرتبة في الحزب. كان الرافعي مبدئيّاً في بعثيّته، لكن بحدود سقف أوامر النظام الصدّامي. قلّة هم قادة المرحلة «الوطنيّة» الذين لم يتلوّثوا بالفساد وارتكاب المعاصي في مرحلة الصعود. الرافعي كان واحداً من هؤلاء القلّة. ويُسجّل له انه حافظ على ولائه للنظام البعثي العراقي ولصدّام حسين حتى بعد سقوط النظام، مما يثبت ان ولاءه ــــ بخلاف ولاءات زملاء له من قادة الحركة الوطنيّة ــــ لم يكن للمنفعة. وهو لم يماشِ القوى المتنفّذة في كل مرحلة، كما فعل كثيرون من قادة الحركة الوطنيّة. إذ تحوّل بعض هؤلاء من ولاء للنظام الليبي أو السوري إلى ولاء للنظام السعودي. الرافعي كان مختلفاً. عاش بعثيّاً ومات بعثيّاً، ولكن عن قناعة.