باريس | حرص الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون، منذ اللحظات الأولى لتوليه الحكم على إبراز دوره كـ«قائد أعلى للقوات المسلحة». لطمأنة المشككين في قدرته كرئيس شاب، لم يبلغ الأربعين، على مواجهة التحديات الأمنية لبلد يعيش في ظل حالة الطوارئ منذ أكثر من عامين، ويواجه تهديدات إرهابية متزايدة، تعمّد ماكرون مفاجأة الفرنسيين بقراره ركوب مدرعة عسكرية، بدلاً عن السيارة الرئاسية التقليدية، خلال مراسيم تنصيبه رئيساً!
بذلك كان ماكرون أول رئيس فرنسي يعبر جادة الشانزليزيه على متن مركبة عسكرية، للتنقل من قصر الإليزيه الى قوس النصر، للوقوف عند قبر الجندي المجهول، كما يقتضيه بروتوكول مراسيم التنصيب الرئاسية. وبعد توليه الحكم بخمسة أيّام فقط، حرص على أن تكون مالي وجهة لإحدى أولى زياراته الرسمية خارج البلاد، حيث تفقد هناك القوات الفرنسية المشاركة في «عملية برخان» ضد الجماعات «الجهادية» في منطقة غرب أفريقيا.
لكن إصرار ماكرون على الظهور في بزة القائد العسكري المتشدد والواثق من نفسه لم يستطع إخفاء القلق المتزايد في صفوف كوادر وزارة الدفاع والمستشارين العسكريين الجدد في الإليزيه وفي وزارة الخارجية. فقد كشف مصدر دبلوماسي مقرب من ماكرون لرئيس تحرير صحيفة «لوكانار أونشينيه»، كلود أنجيلي، بأن تلك الزيارة إلى مالي سمحت للرئيس بأن «يكتشف، بعد خمسة أيّام فقط من توليه الحكم، إلى أي مدى تواجه القوات الفرنسية في منطقة الساحل الأفريقي معركة خاسرة سلفاً، لأن كل المعطيات الميدانية تشير إلى أنها تسير في طريق مسدود».

يسعى ماكرون لإيجاد
بدائل محلية من الوجود
الفرنسي في غرب أفريقيا


المأزق الذي تواجهه القوات الفرنسية في الصحراء الأفريقية ليس بالأمر الجديد. فقد كان العديد من الخبراء والمستشارين العسكريين والدبلوماسيين يتقاسمون هذه النظرة المتشائمة التي تخشى أن تتحول حالة التخبط التي تواجهها الجيوش الفرنسية في شمال مالي الى ورطة عسكرية وسياسية تجعل منها «أفغانستان فرنسية في الصحراء».
لكن فريق المستشارين الرئاسيين، في عهد فرانسوا هولاند، والخبراء العسكريين المحيطين بوزير الدفاع السابق، جان إيف لودريان، عملوا على مدى سنوات على إسكات الأصوات المنتقدة لغياب استراتيجية واضحة الملامح في الحرب الفرنسية ضد الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي. مما حوّل مصلح «أفغانستان الصحراء» إلى تابو سياسي يُعاقب أي مسؤول أو مستشار يجازف باستعماله علناً.
أول من دفع ثمن مثل هذه المجازفة، جان كلود كوسرون، الذي يشغل حالياً منصب مستشار أمني للرئيس ماكرون. وهو مدير سابق لجهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية (2000 – 2002)، وكان يشغل منصب الأمين العام للأكاديمية الفرنسية للدبلوماسية الدولية»، منذ عام 2007. وأُبعد من هذا المنصب، عام 2014، إثر تصريح شكّك فيه بجدوى الاستراتيجية العسكرية الفرنسية في مجال مكافحة الإرهاب في منطقة غرب أفريقيا، وكان أول من حذّر من تحوّل منطقة الساحل إلى «أفغانستان فرنسية».
إلى جانب كوسرون، يضم فريق مستشاري ماكرون شخصية أخرى اشتهرت بمعارضتها للاستراتيجية العسكرية الفرنسية في أفريقيا. إنه الدبلوماسي لوران بيغو، الذي تم فصله من منصبه في وزارة الخارجية، عام 2012، لأن تنبأ علناً، خلال أحد الملتقيات الدراسية التي تنظمها الوزارة، باحتمال إطاحة دكتاتور بوركينا فاسو، بليز كومباوري، الذي كانت فرنسا تعتبره آنذاك بمثابة «حجر الزاوية» في استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب في منطقة غرب أفريقيا.
لم تكد تمضي أشهر قليلة حتى تحققت نبوءة لوران بيغو. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2014، تفجرت انتفاضة شعبية عارمة أطاحت بليز كومباوري، الذي كان قد وصل الى الحكم بانقلاب عسكري اغتيل خلال زعيم «فولتا العليا» (تحول اسمها لاحقاً إلى بوركينا فاسو) اليساري توماس سانكاراكاريا، عام 1987.
انضمام لوران بيغو إلى فريق مستشاري ماكرون لم يخفف من نبرة انتقاده للوجود العسكري الفرنسي في مالي. ففي مقابلة مع إذاعة فرنسا الدولية، منتصف أيار الماضي، قال إن «استراتيجية مكافحة الإرهاب الفرنسية في منطقة الساحل تسير في طريق مسدود، تحديداً لأنها قائمة على التحالف مع نظام باماكو الذي يعاني من غانغرينا مستفحلة بسبب الفساد».
في المقابلة ذاتها، أطلق بيغو نبوءة جديدة، محذراً من أن «الأهداف التي تسعى إليها فرنسا، سواء في مالي أو في جمهورية افريقيا الوسطى، ستبقى مستحيلة التحقيق ما لم تتغير هذا الاستراتيجية المتمثّلة في التحالف مع أنظمة تسلطية ينخرها الفساد». ولفت إلى أن «مستويات العنف والتهديدات الإرهابية ستبقى خطيرة ومستمرة، ما لم تكن هناك رؤيا سياسية وجيو-استراتيجية مغايرة لمرافقة الجهد العسكري الفرنسي في المنطقة».
للخروج من المأزق العسكري والدبلوماسي الذي ورثه عن سياسات فرانسوا هولاند في إفريقيا، يسعى ماكرون لإيجاد «بدائل محلية» عن الوجود العسكري الفرنسي في منطقة غرب افريقيا، تمهيداً لسحب قواته من هناك.
من هذا المنطلق، طرحت فرنسا أمام مجلس الأمن الدولي، في 21 يونيو/ حزيران الماضي، مشروع قرار يقضي بإنشاء قوات أفريقية مشتركة لمكافحة الإرهاب. لكن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عطّلت المشروع جزئياً، إذ اشترطت لتمرير القرار ألا يتضمن أي تمويل لتلك القوات الأفريقية من ميزانية الأمم المتحدة التي تريد الولايات المتحدة خفض مشاركتها فيها.
هذا الاعتراض الأميركي دفع ماكرون للبحث عما أسماه «دينامكية دولية بديلة» لتمويل القوات الأفريقية، مراهناً على مساهمات «دول حليفة» كألمانيا وهولندا وبلجيكا. لكن هذه المساعي لم تسفر، حتى الساعة، عن أي تمويل ملموس، باستثناء 50 مليون يورو وُعد بصرفها من ميزانية الاتحاد الأوروبي فور تأسيس القوات المشتركة الأفريقية. مما دفع الرئيس التشادي، إدريس دبو، إلى دق ناقوس الخطر، إذ هدّد قبل أقل من أسبوع على انعقاد القمة الخماسية في باماكو، بسحب مشاركة بلاده من هذه القوات الأفريقية لمكافحة الإرهاب. علماً بأن المشروع الفرنسي الأصلي كان يأمل أن تكون القوات التشادية بمثابة العمود الفقري للقوات الأفريقية المتخصصة في مكافحة الإرهاب، على غرار الدور المرتكز الذي تلعبه تشاد ضمن قوات التدخل التابعة لمنظومة دول غرب أفريقيا، والتي أنشئت عام 2015، لصد تهديدات جماعة «بوكو حرام» لدول المنطقة. لكن الرئيس التشادي لم يعد متحمساً لخوض تجربة جديدة من هذا النوع، وخاصة في غياب التمويل الدولي الذي وعدت به فرنسا الدول الأفريقية المرشحة لمشاركة في هذه القوات.




«عجقة» قوات التدخل في غرب أفريقيا!

تضم القوات الفرنسية المشاركة في عملية «برخان» لمكافحة الإرهاب في منطقة غرب أفريقيا 4500 مقاتل. وقد أنشئت هذه القوات، بالتزامن مع التدخل الفرنسي في مالي، لوقف زحف الجماعات «الجهادية» على باماكو، في شباط/ فبراير 2013. تضاف إلى هذا الوجود قوات دولية، نُشرت في المنطقة بعد «تحرير» شمال مالي، عام 2014، وقوامها 13 ألفاً من القبعات الزرق وألفا شرطي، تحت إشراف الأمم للأمم المتحدة. وقد اكتملت هذه الترسانة بإنشاء القوات الأفريقية التابعة لمنظومة دول غرب أفريقيا، عام 2015، والتي تضم 3 آلاف جندي.
في تقرير رُفع الى مجلس الأمن، بالتزامن مع مشروع القرار الفرنسي القاضي بإنشاء قوات أفريقية مشتركة لمكافحة الإرهاب، شككت مؤسسة International Crisis Group في جدوى إنشاء هذه القوات الجديدة، مرجحة أنها «لن تزيد سوى في تعقيد «عجقة» قوات التدخل الموجودة سلفاً في المنطقة»!




«قمة باماكو»: 423 مليون للقوة المشتركة

أعلن رئيس مالي إبراهيم بوبكر كيتا، أنّ قادة مجموعة دول الساحل الخمس الذين عقدوا قمة في باماكو أمس، بمشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، توافقوا على موازنة «بقيمة 423 مليون يورو للقوة الإقليمية المشتركة» التي يريدون نشرها ضد «الجماعات الإرهابية».
وقال كيتا في مؤتمر صحافي مشترك مع ماكرون، إنّ «كلاً من دولنا (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا وتشاد) ستجهد لتأمين عشرة ملايين يورو»، مضيفاً أنّ «مسألة التمويل احتلت الحيز الأكبر» واستغرقت «معظم الوقت» الذي خصص للمشاورات المغلقة. وأوضح أنّ «التمويل كما قدرناه هو 423 مليون يورو». وأثناء أعمال القمة، وعد ماكرون بتقديم «مساعدة مالية وعسكرية» لقوة مجموعة دول الساحل، لكنّه حضّها على إظهار «مزيد من الفاعلية».
وعشية انعقاد القمة، وفي ما بدا أنه تحدٍّ للزعماء الحاضرين، نشر تنظيم «القاعدة» في مالي، المتمثّل بـ«جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، شريط فيديو لا يحمل تاريخاً، ومدته نحو 16 دقيقة، يُظهر ستة رهائن أجانب على قيد الحياة، بينهم الجراح الأوسترالي المسن آرثر كينيث إليوت، والفرنسية صوفي بيترونان.
(الأخبار، أ ف ب)