لم يخطر في بال «الخليفة» أبو بكر البغدادي، يوم أعلن قيام «دولة الإسلام» على أرض العراق بعد الشام، في حزيران 2014، أن يوم الأفول سيكون قريباً جداً إلى هذا الحدّ. بعد «تجميع» عناصر دولته الوليدة، كانت التطلّعات لأن تبقى، وتتمدّد، في أيّ بقعة «ذُكِر فيها اسم الله» على وجه الأرض. لكن سُبحة هذه الدولة بدأت تكرّ سريعاً. في حزيران 2016، انفضّ معظم قياديي «داعش» من حول البغدادي؛ منهم مَن قضى نحبه، ومنهم من فضّل الفرار، غير آبه بحقيقة أن الموصل التي شكّلت نقطة تمدّد التنظيم هي نفسها صارت نقطة تبدّده.
كان البغدادي يقضي ساعاته متنقّلاً بين مخابئه على جانبي الحدود العراقية السورية، بعيداً في الصحراء بين الموصل والرقة، يراقب من بعيد «قضْم» معاقله، بين العراق وسوريا، الواحد تلو الآخر، بعدما كان تنظيمه قد التهمها دُفعة واحدة. بين ظهوره الأول خطيباً على منبر المسجد الكبير في الموصل، في 4 تموز 2014، حتى آخر رسالة صوتية له، تغيّرت لهجة «الخليفة» بشكل ملحوظ. في تشرين الثاني من العام الماضي، حثّ البغدادي، في تسجيل صوتي امتد لنصف ساعة، مقاتليه على عدم الانسحاب من الموصل، بل القتال حتى آخر رمق، مؤكداً لهم أن «ثمن بقائكم في أرضكم بعزّكم أهوَن بألف مرة من ثمن انسحابكم عنها بذلّكم». لكنه دعا مقاتليه، في تسجيل صوتي أخير نُشر في نيسان 2017، إلى «عدم التأسّف على خسارة الأرض، لأن الولاية لم تنشأ على أساس الأرض».

تغوّل «داعش»

أُخضِعت رواية تغوّل «داعش» للكثير من التحليل والتمحيص

أُخضِعت رواية تغوّل «داعش» في وقت قصير للكثير من التحليل والتمحيص. إلا أن عوامل قوة التنظيم كانت تتجمّع وتتعاظم قبل بروز خلاياه في سوريا ومن ثم العراق، وبالتحديد منذ أن جُمع في سجن أبو غريب ومعتقل بوكا، منذ عام 2004، أبو بكر البغدادي، الذي أصبح الخليفة لاحقاً، بسمير الخليفاوي (الحجي بكر)، العقيد السابق في جهاز المخابرات في قوات الدفاع الجوي التابعة للرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، والذي أصبح لاحقاً مهندس جهاز استخبارات «داعش» المعروف بـ«أمني»، إضافة إلى ضبّاط سابقين في الجيش العراقي التابع لصدام حسين. ومنذ اتفقت هذه الأطراف في عام 2012 على إنشاء منظمة سرية لاستعادة السلطة، أُلبسَت لاحقاً قناعاً إسلامياً، وأُعطيت «الدولة الإسلامية» اسماً لها.
على الأرض، وقبل احتلال الموصل، استفاد التنظيم من حالة الفوضى في العراق، وفيما لم يكن قانون «اجتثاث البعث» قد نجح في كفّ أيدي الضباط النافذين الذين احتفظوا بالولاء لنظام صدّام حسين، كانت خلايا «داعش» قد تمكّنت من الوصول إلى مفاصل أساسية وحسّاسة على المستويَين السياسي والعسكري، داخل مؤسسات الدولة في الموصل. قبل «غزوة الموصل»، كانت التقارير التي تصل بغداد عن الحالة الأمنية في المحافظة، المتاخمة لتطورات دراماتيكية في سوريا، مطمئنة إلى الحدّ الذي دفع القيادة العراقية آنذاك إلى إهمال تحذيرات من جهات فاعلة في الإقليم حيال ما يُحاك للعراق من بوابة الموصل.
أوصِدَت الأدراج على تقارير تحتوي على معلومات مستقاة من رصد اتصالات بين شخصيات عراقية في موقع المسؤولية وجهات إقليمية ودولية، تلتها تحضيرات لوجستية عند الحدود العراقية ــ السورية. تضمّنت التقارير جداول بأسماء الضباط والعسكريين السابقين الذين تم دمجهم في «داعش»، وجُلّهم من البعثيين الذين التحقوا بنائب رئيس مجلس قيادة الثورة والرجل الثاني في نظام صدام حسين، عزة الدوري، والذين تم تكليفهم بمهمات في «داعش»، عسكرية وأمنية. لاحقاً، في مرحلة ما بعد الموصل، حرص التنظيم على تنفيذ خطط «حجي بكر»، الذي قُتل في عام 2014، فيما بعد التثبيت في الموصل، تمدّدت «الدولة» باتجاه أجزاء واسعة من الأنبار ونينوى وكركوك وديالى وصلاح الدين، مستغلة الموارد المالية والتسليحية الهائلة التي «غنمتها».

بداية التبدّد

اليوم، تعيش دولة «داعش» مرحلة التقهقر. قبل أن تقول موسكو إنها «على يقين بدرجة عالية» من مقتل البغدادي بإحدى غاراتها، وقبل أن يرسل «داعش» آخر أكبر إشارات التقهقر بتفجير المئذنة الحدباء التاريخية في الموصل، كان الخطّ البياني لـ«الدولة» آخذاً في الانحدار. للأمر أسباب كثيرة. بالطبع، كان لبروز «الحشد الشعبي» كقوة مواجهة وتصدٍّ، إلى جانب الجيش العراقي، الدور الأبرز في تكوّن عوامل تراجع التنظيم في العراق، فيما اقتصر دور «التحالف الدولي»، بقيادة واشنطن، على شنّ غارات، بقيت تذكيرية حتى اندلاع معركة الموصل، وانتهى معظمها لمصلحة «داعش»... عن طريق الخطأ.
عدم جدية واشنطن في قتال «داعش» ليس مجرّد اتهام، بل هو واقع تثبته مقارنة نتائج التحالف الذي قادته لقتال «طالبان» في أفغانستان، والذي أثمر بعد شهرين تحرير قندهار من قبضته، فيما دخل «التحالف الدولي» لقتال «داعش» في العراق عامه الثاني، من دون أيّ نتائج تُذكر. على العكس، أسهم تكرار «الأخطاء» في إطالة أمد المعارك، وتقوية «داعش» على حساب أعدائه.
على أيّ حال، فإن بروز «الحشد» كقوة عسكرية قادرة على مجاراة مستوى الاحتراف القتالي الذي يملكه «داعش»، سلب من التنظيم تفوّقه الميداني. تمّت مواجهته في الميادين المفتوحة، وبعمليات ليلية ونهارية على السواء، وهي خاصية كان يمتلك حصريتها لوقت طويل، فيما كانت غائبة عن الأطراف المحاربة له.
فضلاً عن سلبه الحصرية أيضاً في أسلوب القتال في الجبهة الداخلية للعدو، فقد تعرّض «داعش» لصدمات الهجوم على نقاط الاشتباك الأولية التي غالباً ما يُقحم فيها الانتحاريين والانغماسيين ومجموعات الصدّ المحترفة لاستنزاف القوات المهاجمة بالتحام مباشر. في عمليات «محمد رسول الله 2» مثلاً، انهارت مجموعات «داعش» أمام استراتيجية «قتال الكتلة» التي اعتمدها العراقيون ضده، وهي استراتيجية تقوم أساساً على صدم القوة المهاجمة المتقدّمة والمنهكة من معالجة الخط الأولي، وإلحاق خسائر كبيرة فيها باستعمال معظم الطاقة البشرية والنارية المتوافرة، وهو بالمناسبة أسلوب يجيده «داعش». استيعاب أسلوبه تارةً، ومواجهته بنفس أسلوبه تارة أخرى، أنهكا قوى التنظيم، وحققا حسماً سريعاً ومباغتاً على أكثر من جبهة.
في المحصّلة، أيقنت القيادات الأجنبية والأساسية لـ«داعش» في العراق، وسوريا أيضاً، أن مشروعها قد انكسر، فهاجرَ معظمها، فيما بقيت القيادات المحلية التي لا تملك ثقلاً وازناً في معادلة «الدولة الإسلامية». وبعد فقدان القيادات، وتناقص الأعداد، وتقلّص مساحة «أرض التمكين»، لن تعود «دولة داعش» ذلك التنظيم الخارق الذي يجذب العواصم للاستثمار فيه، فيما تبدو الساحة اليوم خالية من أي نظير له، بانتظار ردّ فعل المتضرّرين من انتهاء زمن «داعش».