في موازاة الصرخة التي أطلقها أحد بحّارة كريستوف كولومبس لحظة اكتشاف أميركا «اليابسة... اليابسة»، كان عالم تشريح إيطالي يحمل اسم ماتيو كولومبو يعيش الدهشة نفسها باكتشاف أميركا صغيرة بحجم المسمار، وهو يبحر في خريطة الجسد الأنثوي لمريضة على حافة الهلاك. لكن اكتشاف «كولومبس علم التشريح» سيواجه بعاصفة من الانتقادات إلى درجة محاكمته بتهمة الهرطقة. على خلفية هذه الحادثة، ينشئ الروائي الأرجنتيني فيديريكو أندهازي (1963) مدوّنة روائية مذهلة، في قراءة عصر التنوير، وسطوة الكنيسة ومحاكم التفتيش من جهة، وحدّة الصراع بين العلم والخرافة المقدّسة، من جهةٍ ثانية. كان ماتيو كولومبو قد اكتشف الدورة الدموية قبل هارفي بعقود، لكن اكتشافه هذا لا يقارن بأميركيته الجديدة التي ستُقابل بسخط علماء الكنيسة، ومنع طباعة كتابه وإحالته إلى «فهرس الكتب المحرّمة» إلى ما بعد موته.

ستلقى رواية هذا الأرجنتيني اللعنة نفسها تقريباً، حين سُحبت جائزة «أماليا دي فورتابات» الأرجنتينية (1996) منه بذريعة أنها «تحث على الخطيئة ولا تسهم في تمجيد القيم العليا للروح الإنسانية»، لكن رواية «عالِمُ التشريح» («دار التكوين»، ترجمة: مالك سلمان)، ستشق طريقها لاحقاً نحو 30 لغة عالمية، آخرها لغة الضاد. يتكئ الروائي الأرجنتيني على إشراقات وخطايا القرن السادس عشر، معتبراً إياه «قرن النساء»، ذلك أن البذور التي نثرتها كريستين دو بيسان قبل مئة سنة أزهرت في أنحاء أوروبا مع انتشار عطر كتاب «أقوال العشّاق الحقيقيين» الذي أسهم في عرقلة الصوت الذكوري العميق في رواية التاريخ. مرض غامض أصاب إينيس دي توريمو لينوس التي كانت على عتبة القداسة، استدعى حضور عالم التشريح المشهور إلى فلورنسا على عجل. كان أول انطباع له عن المريضة أنها في غاية الجمال، وأن مرضها ليس مستعصياً. أمرَ مساعده بنزع ثياب المرأة المحتضرة. كانت البنية التشريحية لإينيس أنثوية بالكامل، عدا نتوء صغير في أعلى فتحة فم الرحم. وبدافع حدسي، أمسك عالم التشريح بالعضو الغريب بين إبهامه وسبابته، وبسبابة يده الأخرى أخذ يداعب بلطف الغدة الحمراء المنتفخة، فلاحظ توتر عضلات المرأة على نحوٍ مفاجئ وقسري، قبل أن يلمع جسدها كله بالعَرق، ثم «بدأت تطلق تنهيدات عالية. تحوّلت ملامحها الذابلة إلى تقطيبة مليئة بالشبق». خلال عشرة أيام في الدير، تعافت المريضة تماماً، وبدا أنها حطّمت حواجز العفّة مع طبيبها، رغم ممانعتها الطفيفة لعلاجه الشيطاني.

سُحبت جائزة «أماليا دي فورتابات» من الرواية لأنها «تحثّ على الخطيئة»

سيكتشف عالم التشريح بعد عودته إلى جامعته في بادوا، أن هذا النتوء الغريب المتوحش لا يخص مريضته وحسب، بل كل النساء الأخريات اللواتي تمكّن من فحصهن، موتى وأحياء. وإذا به يقع بالمصادفة على «مفتاح الحب والمتعة»، أو السبب التشريحي للحب، ولم يبق أمامه إلا أن يختار اسماً خاصاً باكتشافه الجديد في مملكة فينوس، فوقع على اسم «آمور فينيريس»، من دون أن ينسى متعة الإبحار إلى مملكة «مونا صوفيا» أشهر عاهرة في فينيسيا، رافعاً سبابته مثل راية المنتصرين. أنهى ماتيو كولومبو مخطوطة اكتشافه الجديد في مئة وخمس عشرة صفحة مزوّدة بسبعة رسوم تشريحية، كانت بمثابة خرائط لقارّته المكتشفة أو غابته التناسليّة، وقدّمها إلى عميد الجامعة في آذار (مارس) 1558، لكن الأخير اعتبر محتويات هذه المخطوطة ضرباً من الهرطقة والتجديف وعبادة الشيطان، وعمد الى مصادرة المخطوطة، مطالباً بمحاكمة صاحبها بالتهم السابقة، بعدما أودع في السجن. خلال عزلته القسرية، كتب مرافعة طويلة لمواجهة اللجنة التي ستحاكمه، شارحاً الجانب الروحي لاكتشافه. لم ينصت أعضاء المحكمة لتبريراته العلميّة، إذ كانت لائحة الاتهام وأقوال الشهود تحتشد بما يقوده إلى منصّة الإعدام بالخازوق. قبل النطق بالحكم، طلب البابا بولس الثالث الذي كان يحتضر بتأثير الشيخوخة، أن يعالجه هذا الطبيب تحديداً، فخضعت المحكمة لرغبة البابا، واكتفت بمنع نشر الكتاب، فنجا ماتيو كولومبو من عقوبة الموت بمعجزة. قسّم عالم التشريح مرافعته إلى 19 جزءاً، راصداً خلالها عواطف الروح وأفعال الجسد، والحب والخطيئة، وانعدام أرواح النساء، والروح والشهوات الجنسية، وسيختتم مرافعته قائلاً «على الرجال أن يتصرفوا مع النساء كما تتصرّف الروح مع الجسد، بما أن جسد الرجل أنثوي وروحه مذكّرة».
تنطوي هذه الرواية على روح هجائية لخرافة القرون الوسطى، وخشية الكنيسة من فقدان هيمنتها على بيوت الدعارة وضرائب الخطيئة، في حال «بدت أقل فائدة من بيع صكوك الغفران، منذ أن قرّر الله سحب الأموال من مرتكبي الخطيئة». بموت البابا بولس الثالث، غادر ماتيو المكان بحثاً عن معشوقته القديمة مونا صوفيا، على أمل الزواج بها، لكنه وجد بقايا امرأة معذّبة ومشوهة بعدما تمكّن منها مرض «السفيليس». وعلى الضفة الأخرى، كانت إينيس دي توريمولينوس تتعذّب وحيدة بعدما هجرها عالم التشريح بكامل شبقها، عندما وصلتها رسالة منه، كان قد أرسلها إليها من سجنه قبل محاكمته، يعترف خلالها بأنه أحبها بشهوانية لا توصف، لكن عليها أن تنساه لأنه سيموت بانتهاء محاكمته. بسكين مشحوذة ستبتر ذلك النتوء إلى الأبد، وهو ما ستقوم به حيال بناتها الثلاث، لكنها ستترك خلفها أفضل طاقم من العاهرات في منطقة الشرق الأوسط، بوصفها «رسولة تحرير القلوب الأنثوية من العبودية»، كما أصبحت أشعارها «القدّاس الأسود» تراثاً شفوياً خطيراً في تمجيد المتعة.