تسأل فيروز (الصورة) بدايةً لِمن ولماذا تدور الأرض؟ ثم تسارع بالإجابة: «مش لشي ولا أي شي». فيروز الثمانينية تُسدل الستارة على المعنى. «ليه الأرض بتدور؟». لماذا نحيا؟ تجيب بكل هدوء، ليس هناك سبب، ليس هناك معنى. والوطن؟ الحب؟ الأمومة؟ الله، الناس، الحرية والمقاومة؟ وكل ما غنيتِ له؟ «لمين بتخلص العتمة؟» تكرر «مش لشي».
لقد وصلت فيروز بعد هذا العمر من إنتاج الجمال ونشره، لتقول إن كل ذلك ليس أكثر من هباء. «كلُّ شيءٍ باطل. ما الفائدة للإنسان من كلِّ تعبه تحْتَ الشَّمس؟ دَوْرٌ يمضي ودَور يجيء، والأرض قائمةٌ إلى الأَبد». قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، وردت هذه العبارة في نص «سفر الجامعة» في العهد القديم، وهو نصٌ إلحاديّ بامتياز، لو لم يُدخل عليه كتبة التوراة في ما بعد جملتين في الختام عن «مخافة الله والإيمان به»، كي يستطيعوا إدراجه في الكتاب الديني.
الفكرة معروفة. لا بل لعلها أكثر ما يتمحور حوله تشكيك الإنسان بعد وجود الله، كما أن الكلمات مأخوذة عن أغنية فرنسية مشهورة. ولكننا نتكلّم هنا عن الاختيار. عن التبنّي. الجديد هو أن تغنّي فيروز هذه الفكرة بهذا الهدوء والوضوح. ولعلّ هذا أكثر ما يُخيف. فيروز التي نصّبها محبوها «سيدةً للمعنى»، تقول لنا، هي أيضاً، «كل شيءٍ باطل».
لا ندري إذا كان الاختيار قد تم من قبل ريما، أو من قبل فيروز. في الحالتين، تبدو التجربة السابقة بين الأم وإبنتها «بيتي صغير بكندا»، كأنها الأخت الصغرى للعمل الأخير.
لعلّ هذا هو المسار الطبيعي للأشياء. مَن رأت عام 2004 أن النجاة هي بيت صغير في كندا، ولو أنها كانت في حينه لا تزال تشعل النار وتنتظر حبيبها، ستصل بعد ثلاثة عشر سنة، إلى خلاصات عن اللامعنى واللاجدوى.
هنا، نتذكّر زياد.
لن نستطيع للأسف أن نحدد الفرق بين توزيع «لمين» وبين توزيع آخر كان ليشتغله زياد. لكن ما يمكن التطرّق إليه الآن هو النص. التجربة.
هناك في التجربة ما يستدعي المقارنة بين الحالة التي قدّمتها فيروز مع ريما قبل سنوات والتي تقدمها اليوم، من جهة، وبين تلك التي قدمتها مع زياد من جهة أخرى.
في كلام زياد الذي يردد دوماً، ويا للمفارقة، أنه يعاني مشكلة مع كتابة الكلام ويفضل «الموسيقى الصامتة»، صراعٌ دائم. تحاول نصوص زياد أن تكسّر شيئاً ما لتعيد صناعته من جديد.
«يمكن حُبّك جدّ بس أنا تعبانة/ اعطيني خمس دقايق بس/ تسمّع عالموسيقى». زياد يفاوض النقص. يحاول أن يخترق جدار الواقع. مع أنها «تعبانة» لم تقفل الباب في وجهه. طلبت خمس دقائق لتعيد النظر. في حالة فيروز وريما، أظنّ أن التعب سبب كافٍ «لتطبش» المرأة الباب بوجه البشرية جمعاء.
زياد ماركسي. يدخل ويخرج بين العناصر والمشاعر والأحداث إلى ما لا نهاية. «شو بدّك يعني موت فيك؟/ والله رح موت فيك/ صدّق إذا فيك». تتعجب من طمعه بالتعبير بعدما ظنّت أنه يكفيه حين قالت «عندي ثقة فيك». ثم ترضخ وتقول المزيد. لكنها تعلم أنه حتى هذا التعبير لن يكفي ولن يصدّقه لأنه ليس بوسعه ذلك، فلو كان بوسعه أن يصدق، لما كان سأل من الأساس!
زياد يواجه. وهذا لا يعني أنه لن يصل إلى الخلاصة ذاتها، إلى الـ«مش لشي». فهو من كتب «عم يبرم العدّاد كل شي فاني»، لكنه في الوقت نفسه قال «خلّالي طريقي ورح إمشيه». ربما الوجهة هي نفسها، لكن فيروز مع زياد تسلك طريقاً أخرى. أكثر وعورةً. طريقٌ شقّتها التجربة العميقة، لا التجنّب والخوف الأعمى. في اختيار الأغنتين المذكورتين، لجأت ريما إلى التجنّب. الإنزواء. حتى أنها في مقطع البروفا الذي نشرته قبل أيام من إصدار الأغنية، اختارت مشهداً يظهرها تشرح لفيروز ترتيب كلمتي «وحيدة وبعيدة».
«بيت صغير بكندا/ وحده صوتي والصدى». «وحيدة وبعيدة». «لمين الأرض بتدور/ إلك أو إلي/ أو مش لشي؟/ مش لشي/ ولا أي شي».
هذا لا يُنقص شيئاً من قيمة التجربة الثانية. لكنه يضيء على الهشاشة الظاهرة فيها والاستسلام التام لهذه الهشاشة. ففي الحالتين (وفي أحوالنا جميعاً)، ما هي التجارب الإنسانية إلا تمرين متواصل على العبث؟ هل هي أصلاً شيء غير محاولات يومية لاحتمال اللامعنى؟
ولكن طرق التعبير مختلفة. زياد واجه هذا كله في الشارع، مع «جاره اللي ما بيفهّم شي»، مع الأهل «اللي معهن نقّ»، مع الحبيب «الذي ينذكر وما ينعاد». ولكن ما الفرق بين «مش لشي» وبين «ما صار شي كتير/ كل اللي صار/ وبعده بيصير/ الله كبير»؟ في المضمون لا شيء. ولكن زياد «لا يهرب إلى الأمام»، هو أوصل لنا مرات عدة الخلاصة نفسها، ولكن من دون الاعتراف بها بهذه الفجاجة. تاريخ الرجل، «مادّيته» ترفض التعبير عن هذا الأمر بهذه الطريقة. «كيف طلّ الورد بشباكي مع إنه ما دقّيت؟»، سخرت فيروز، في أغنية لزياد، من أخرى غنّتها قبل عقود ومن طريقتها في التعبير آنذاك، قبل أن تستذكر أغنية أخرى «يا ريت إنت وأنا بالبيت/ بس كل واحد ببيت/ فعلاً حلوة هالغنّية/ بس جدّ انسمّيت». إذا لم يكن ذلك تنويعاً على العبثية، فماذا يكون؟
تبدو فيروز مع ريما تريد الأمور «من الآخر». العزلة. الاستسلام والهروب. لا تستطيع الحالة الثانية أن تلتف على هذه الخلاصة، تبدو كأنها لا تمتلك الأدوات أصلاً. ناهيك عن سهولة الحكم الواسع، من فوق، وإقفال الباب على العالم، الأمر الذي يقي الكثير، صحيح، لكنه يقي التجربة أيضاً. زياد كان يحاول أن يطوّع هذا العالم، من تحت، يجادله، يفككه، يحاول إعادة صياغة ما. حتى ولو كانت في الحالتين النتيجة نفسها.
الجميل والمثير والمخيف في آن، أن فيروز تقول لنا هذه المرة، هاكُم الخلاصة: لستُ بحاجة إلى حبيب ولا إلى الجار إياه، ولا إلى الأهل، ولا الله ولا الوطن ولا العائلة، ولا لأي شي. وكل المعاني التي قدّمتها سابقاً، على جمالها وعجائبيتها، ليست سوى طبقات للإلهاء عن حقيقة واحدة. حقيقة اللامعنى. من دون أن ينتقص كل ذلك من قيمة ما قدّمته. فلكل مرحلة عمرية عِبرها وآمالها وخيباتها وطرق تعبيرها.
يقول الفيلسوف الدنماركي سورن كيركيغارد، إن «الحياة لا تُفهم إلا رجوعاً إلى الخلف، لكنّها لا تُعاش إلا إلى الأمام». (للأسف). أظنّ أن هذه هي المسافة الفاصلة بين «إذا الأرض مدوّرة/ رح نرجع نتلاقى»، وبين «لمين الأرض بتدور؟/ مش لشي/ ولا أيّ شي».