بينما كانت «فورين بوليسي» الأميركية تنشر أمس تفاصيل جديدة مأخوذة من وثائق «سي آي إيه» بشأن الانقلاب الذي أُعدَّ أميركياً ضد حكومة محمد مصدق في إيران عام 1953، كان انقلاب آل سلمان في السعودية يدخل في مساره الأخير.
ما بين الخبرين مشترك واحد: هكذا تواصل واشنطن مساعيها للإمساك بالشرق الأوسط. وهكذا، من بوابة ما سُمِّي «صفقة القرن» بين ترامب وآل سلمان، يستعد وليّ العهد الجديد لتولّي الحكم. لكن لعلّ الخطير في ما يحدث راهناً، أنّ الانقلاب الناجح حتى الساعة يستكمل فصوله في مملكة لم تعد، لا من ناحية الامكانات ولا من ناحية القدرات، ما كانت عليه حتى أعوام قليلة إلى الوراء، حين كانت صاحبة الدور القيادي في مختلف الملفات العربية والإقليمية.

أزمة «الخلافتين»

بعد مرور عامين ونصف عام على إمساك الملك سلمان بزمام السلطة، تبدو الرياض أضعف سياسياً على المستوى الإقليمي، مقارنة بما كانت عليه في عهد سلفه عبدالله. فعلى الرغم من الاندفاعة الشديدة لسلمان في بداية عهده وإعلانه «عاصفة الحزم» في اليمن، فإنّ السعودية بدأت تفقد من نفوذها الإقليمي، ولم تتمكن من تثبيت «دور قيادي» كان قد أمل فيه كثيرون من حلفائها، وحتى بعض من خصومها الإقليميين.
وقد يُقدِّم «الصدام» الحالي مع قطر مؤشراً على هذا الضعف، إذ لم تكن السعودية تصل في أشد خلافاتها مع الإمارة الصغيرة إلى حدّ قطع العلاقات الدبلوماسية. ورغم أنّ هناك من يربط بين قرار «الصدام» مع قطر وقرار ترقية ابن سلمان، تجدر الإشارة إلى أنه خلال أزمة 2014 الخليجية، نجحت المملكة، في غضون أشهر، في إعادة فرض نفسها أمام جارتها الصغيرة، وضمن البيت الخليجي، بصفتها «شقيقة كبرى»، من دون رفع سقف «المواجهة».

لا يبني «الخوف» سياسة إقليمية،
بل يقود نحو مزيد من التخبّط


أيضاً، إنّ الحديث الحالي عن أنّ ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد هو من «جرّ» محمد بن سلمان، ومن خلفه الرياض، نحو التصعيد مع الدوحة، يعطي مؤشراً إضافياً على هذا الضعف. إضافة إلى أنّ التسريبات التي أظهرت أنّ الإمارات تدعم ملف ابن سلمان في واشنطن ليكون هو الملك المقبل للسعودية بدلاً من محمد بن نايف، يؤشر إلى تراجع القبضة السعودية خليجياً، إذ بات بالإمكان أن تلعب جارتها الإماراتية دوراً في ملف «الملك المقبل».
من جهة أخرى، فإنّ أكثر من ثلاثة أسابيع على الأزمة الخليجية الحالية تكشف بما لا يقبل الشك عن خلل في الدبلوماسية السعودية، لناحية عجز وزير الخارجية عادل الجبير عن لعب دور يوازي الدور الذي يلعبه كلٌ من سفير أبو ظبي لدى واشنطن يوسف العتيبة، ووزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش. وعلى سبيل المثال، ففي ليلة إعلان الدول الأربع (السعودية، الإمارات، البحرين، ومصر) القطيعة الدبلوماسية مع قطر، كان عادل الجبير في القاهرة، وعُرِف في اليوم التالي أنّه «لم يكن على علم بصورة المشهد كاملاً».
وعلى الرغم من أنّه لا أحد اليوم من المسؤولين «الخليجيين» يمكنه القفز فوق رمزية مكانة الملك السعودي، إلا أنّ مشهد الجبير في القاهرة ليلة إعلان القطيعة الدبلوماسية، ألقى الضوء بوضوح على الاهتزاز الذي تعاني منه الدبلوماسية السعودية اليوم.
ولعلّ السبب الأساسي لهذا الاهتزاز هو أزمة الفراغ التي أنتجها رحيل سعود الفيصل، واستبداله بالجبير، العاجز عن تأمين مكان له في «داخل قصر الملك»، حيث دوائر الحكم والقرار. وغالباً ما يشير دبلوماسيون عرب في أحاديث خاصة إلى وجود «امتعاض» على رأس وزاراتهم بسبب غياب نظير سعودي وازن «يمكن العودة إليه في مجمل القضايا الثنائية». حتى إنّ عدداً من المتابعين يرون مثلاً أنّ أحد الأسباب الرئيسة للخلاف المصري ــ السعودي (الذي وقع قبل أشهر)، هو «غياب آليات تواصل يومية مع الرياض، إذ من غير الممكن الركون إلى التفاهمات مع الجبير، بل يجب التواصل مباشرة مع محمد بن سلمان».
وجدير بالذكر أنّه منذ وصول الملك سلمان إلى الحكم، كان لافتاً توجهه نحو تسليم نجله كمّاً أعلى من السلطات والصلاحيات، إلى جانب تعيين بعض من أبنائه الآخرين في مراكز أساسية، واستبدال شخصيات من «آل سعود» بموظفين، مثل الجبير. توجهات سلمان التي بدأت منذ تسمية نجله ليكون «وليّ وليّ العهد» غذّت الخلافات بين أمراء العائلة الحاكمة، وأوصلت إلى الانقلاب الحالي (مع الإشارة إلى أنّ أحد الصحافيين المتابعين عن كثب للشؤون الخليجية نقل قبل أشهر أنّ «أميرَين نافذين التقيا الملك خلال الصيف الماضي، وأعربا أمامه عن تذمّرهما من تصرفات نجله»).
في المقابل، فإنّ شخصية ومسار هذا الملك نفسه يفتحان الباب أمام أزمة ثانية، وهي أنه لم ينجح في ملء فراغ سلفه عبدالله، الذي كان أحد أعمدة ومهندسي ما يُسمى «النظام العربي القديم». وهذا الملك، بخلاف سلفه، لم يكن صاحب أدوار دبلوماسية وازنة في خارج بيت آل سعود، بل كان صاحب أدوار هي أقرب إلى الأدوار المخابراتية (لعلّ أبرزها تمويل «مجاهدي أفغانستان» في الثمانينيات ومشاركته في تمويل جماعات مشابهة خلال حروب تقسيم يوغوسلافيا).

عهد «الخوف»

عرفت السياسة الإقليمية للسعودية في عهد سلمان تقلبات جذرية، بدأت من محاولات تشكيل «تحالف سنّي» يضمّ تركيا وجماعة «الإخوان المسلمين»، وصولاً إلى الانقلاب عليهم. وهذا ما يعزز صورة ضعف التوجهات السعودية الإقليمية راهناً.
وتشير محاولات سلمان إلى إعطاء زخم جديد للسياسة السعودية الإقليمية، مبنيّة على تحالفات مرة تكون فوق هيكل «إخواني» ومرة أخرى فوق هيكل التوافق مع الإدارة الأميركية الجديدة على أنّ الرياض «زعيمة للعالم الإسلامي»، إلى قلق تعيشه هذه المملكة منذ تبدّل المشهد الإقليمي، تحديداً إثر الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وما تبعه من إقامة نظام عراقي «تهيمن عيله طهران»، وفق النظرة السعودية.
هذا القلق الذي تعززه «أزمة الخلافتين»، قاد تدريجياً نحو واقع أنّ «الدبلوماسية السعودية لم تعد شديدة الحذر كما كانت تتميز سابقاً»، وفق ما يرى أستاذ العلاقات الدولية والتر راسل ميد، في مقالة أخيرة له في «وول ستريت جورنال»، والذي يشير أيضاً إلى أنّ «الخوف» بات يحرّك الرياض على الصعيد الخارجي، خاصة بعدما «بدأ الشعور بعدم الاستقرار (يظهر) في عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما»، إثر توصل الأخير إلى «الاتفاق النووي» مع إيران.
ويظهر ذلك «الخوف» في اندفاعات السعودية راهناً على الصعيد الإقليمي، إلى درجة أنه بدأ الحديث يكثر عن محاولاتها «للتطبيع مع إسرائيل» (بصورة تخالف مبادراتها السابقة لـ«السلام»). ويظهر هذا الأمر في تصريحات الجبير، وحتى ابن سلمان الذي حاول تهديد طهران مؤخراً، في حوار متلفز أجراه مع «قناة العربية»، بنقل الصراع «إلى أراضيها». ويظهر أيضاً في ردود الفعل الشديدة للرياض على التحركات السلمية لأهالي القطيف في شرق البلاد وللحراك البحريني.
على كل حال... فإنّ «الخوف» لا يبني سياسة إقليمية، بل يقود نحو مزيد من التخبّط والانتحار السياسي (وقد يكثر التخبّط إذا واصلت الرياض، في «عهودها الجديدة»، النظر إلى سوريا والعراق بصورة خاصة على أنهما بمثابة حديقة خلفية لـ«الصراع مع إيران»).
وبصرف النظر عمّن يحكم السعودية، فإنّ هذه المملكة تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى من ينقذها من مسار الانتحار، ويهدّئ «هواجس الخوف» لديها، خاصة أنّ «سلمان ليس حاضراً بما يكفي، وجيل الصغار متكبّر ويأخذه غرور القوة»، كما قال محمد حسنين هيكل قبل أشهر قليلة من رحيله.
غير ذلك، قد يدفع إلى تذكر عبد الرحمن منيف مجدداً (وبقليل من التصرّف)، خاصة حين يقول في خُماسيته عن «مدن الملح» المؤرخة للتحولات «الخليجية» في القرن الماضي: «ﺳﻮﻑ ﻟﻦ ﺗﺠﺪ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﻳﺤﺮﺹ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﺃﻭ ﻳﺮﻳﺪ ﺑﻘﺎﺀﻫﺎ، لأﻧﻬﺎ ﻭﻟﺪﺕ ﻓﻲ ﻏﻴﺮ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﻭﻓﻲ ﻏﻴﺮ ﺯﻣﺎﻧﻬﺎ»... خاصة أنّ «هواجس الخوف» التي بنتها وراكمتها، لن تقود إلا نحو مزيد من «التيه».