كان الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) أول مفكر سياسي يقدّم إطاراً متكاملاً لفهم الأسباب التي تدفع الطبقة العاملة في الدولة الحديثة للقبول بحكم البرجوازية والامتناع عن القيام بالثورات للإطاحة بها.
هذا الإطار الذي تعرفه العلوم السياسية اليوم بنظريّة الهيمنة، يفترض أن الطبقة الحاكمة لا تعتمد لفرض سلطانها على الطبقات الأخرى مجرد القوة المحضة واحتكار السلاح والأمن والقضاء، وإنما تبني نوعاً من مناخ فكري يجعل هؤلاء المحكومين يقبلون بحكم الأقليّة المهيمنة برضى، وذلك من خلال تقاطع الثقافة التي تنتجها مؤسسات المجتمع المدني الموازية للدّولة كالمؤسسة الدينيّة والصحافة والتعليم والأحزاب السياسيّة والنقابات، التي تتضافر جهودها لتكريس حكم الطبقة المهيمنة.
هذه النظريّة الشديدة الخطورة تنطبق على المملكة المتحدة ربما أكثر من أي مكان آخر، حيث توظف الطبقة المهيمنة حزب العمال البريطاني ــ منذ تأسيسه ــ لاستيعاب الطبقة العاملة والتفاوض معها بحسب التوازنات السياسيّة، لكن دائماً تحت سقف النظام الملكي الحاكم وبالتأكيد ضمن حدود الاقتصاد الرّأسمالي. وحتى عندما اضطرت النخبة لتمرير السلطة للعمال بعد الحرب العالمية الثانية خوفاً من انقلاب محتمل لملايين الجنود البائسين الذين عادوا للبطالة، فإن كل منجزاتهم العظيمة في الصحة والتقديمات الاجتماعيّة والخدمات العامة في حكومة كليمنت أتيلي، بقيت في النهاية نوعاً من تلطيف كينزيّ للاقتصاد الرأسمالي، لا تحولاً تاماً للاشتراكيّة، فيما بقيت قيادة الحزب دائماً في أيدي مثقفين برجوازيين يتبعون سياسات ليبراليّة، مقابل أقليّة هامشية من اليساريين لم يسبق لها تولي مناصب هامة، لا داخل الحزب ولا في السلطة في الـ33 سنة التي تولى فيها العمال تشكيل الحكومات البريطانية منذ بداية القرن العشرين.
من هنا تأتي الأهميّة الاستراتيجيّة للنتيجة الممتازة التي حققها الحزب في انتخابات الثامن من يونيو/ حزيران العامة المبكرة والتي تستحق أن نسميها باللحظة الكوربينيّة النادرة ــ نسبةً إلى جيريمي كوربن رئيس الحزب. فبرغم الحملة السلبية غير المسبوقة ضد شخص كوربن في الإعلام الجماهيري البرجوازي، وتوافق حزب المحافظين الحاكم مع يمين حزب العمال لمحاولة الإطاحة به من رئاسة العمال، إلا أنه ــ وكتلة اليسار في الحزب ــ قلبوا كل الموازين ونجحوا في كسر أغلبية المحافظين، وانتزعوا منهم مقاعد مفصليّة عدة، وأعادوا وجود العمال في اسكتلندا، وأصبح تولي كوربن رئاسة الوزارة مطلباً شعبياً لنصف الشعب البريطاني على الأقل. إنها المرّة الأولى التي يصل فيها يساري حقيقي إلى هذه المكانة في النظام السياسي البريطاني. وتلك نقطة أولى سننطلق منها في تحديد مهمات اليسار البريطاني في المرحلة المقبلة. لكن مهما كانت النتيجة إيجابيّة لحزب العمال، فإن المحافظين ما زالوا الحزب الأكبر في البرلمان وعلى الأغلب أنهم سيستمرون بالحكم متحالفين مع الاتحاديين الديموقراطيين في إيرلندا الشمالية وربما بعض نواب قليلين من الليبراليين الأحرار، لكن النتيجة الكليّة للانتخابات أظهرت انقسام البلاد المحتم إلى قبيلتين سياسيتين متعارضتين حول كل المسائل: الحكم والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي والنظام الاقتصادي وأنظمة الرعاية الاجتماعيّة. هذا الانقسام هو توأم الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي الذي ينحو دائماً إلى بناء جرف هائل بين الرأسمال والعمال المأجورين، ومما لا شك فيه أنه لن يكون بمقدور حزب العمال تقليص هذا الجرف في ظل الوضع القائم، وفي غياب تحولات جذرية تدفع إحدى الكتلتين نحو الأخرى. هذا الانقسام قطعاً لا ينبغي له تسليمنا لليأس، لأن التدقيق في نتائج الانتخابات يظهر أن العماليين استقطبوا أكثريّة ساحقة بين جيل الشباب (66% مقابل 18% للمحافظين) مقابل سيطرة للمحافظين على قطاع كبار السن، وتقاسم لأصوات الجيل المتوسط بينهما، وهي نتائج تعلل بتفشي الصعوبات الاقتصادية في حياة الجيل الصاعد الذي يتخرج مديوناً، ولا يجد وظائف مجزية، وعاجزاً عن مجرد الحلم بشراء منزل وتأسيس عائلة. وهذه نقطة انطلاق ثانية مهمة لتحديد مهمات اليسار.

تبني برنامج حدّ أدنى ماركسي هو ما يتوقعه الجمهور من كوربن

النقطة الثالثة تأتي من مانيفستو العمال الذي قدّمه في الحملة الانتخابية. برغم كل الترحيب الذي حظي به ذلك المانيفستو، فإنه في التحليل الاقتصادي المحض لا يعدو كونه مجرد تلطيف للنيوليبرالية التاتشرية، من دون تقديم أي حلول جذريّة تضمن تغيير أسس النظام الرأسمالي الذي يطبق على أرواح الطبقة العاملة. ولا شك أن معظم من صوتوا للعمال على أساس هذ المانيفستو إنما صوتوا لما اعتقدوا أن ذلك المانيفستو سيحققه لا على أساس معناه الحقيقي أو على الأقل لأنه أفضل نسبياً من مانيفستوهات الأحزاب الأخرى. لقد أبعد فريق كوربن اليساري ماركس عن مانيفستو العمال، خوفاً من المكارثيّة التي لا تزال تصم كل اشتراكيّة في الغرب منذ الثورة الروسية عام 1917 على الرغم مما تقاطعت الإشارات إليه من عدم خشية الجيل الصاعد التفكيرَ بنظام بديلٍ للرأسماليّة.
من الواضح أن النخبة الحاكمة لن تسمح بتحقق الحلم الوردي بتولّي كوربن السلطة، فهو أحرق كل مراكبه معهم، ليس لأنه ماركسي الجذور فحسب، بل لمواقفه المتكررة عبر تاريخه السياسي في التصدي لخزعبلات اليمين لا سيما دعم إسرائيل، وتحالفه مع السعوديّة ودول الخليج في نشر الإرهاب والعدوان على سوريا واليمن، والعلاقة بحلف شمالي الأطلسي، واستخدام الأسلحة النووية وغيرها الكثير من القضايا التي قد تزلزل بنية النظام البريطاني من جذوره.
أخذاً بذلك كله، يتحتم على اليسار البريطاني اليوم أن تتركز مهماته حول الاستفادة من اللحظة الكوربينية النادرة هذه للعمل الاستراتيجي ــ على المديين المتوسط والطويل ــ بغرض الوصول إلى السلطة ضمن لعبة الديموقراطيّة البرلمانيّة باسترداد حزب العمال ذاته من اليمين وتحييد معارضي كوربن في القيادة على أساس التفويض الشعبي الجارف الذي حصل عليه في الانتخابات الحزبيّة والعامة، من ثم إعادة بناء الحزب كتحالف يسار عريض يمثل قطاعات الطبقة العاملة كافة وكل المتضررين من حكم المحافظين، وهو ما يتطلب ــ ووفق غرامشي أيضاً ــ صراعاً لتولي اليسار مقاليد الأمور في النقابات، وتقوية سياسات الحزب الإعلاميّة بالاستفادة من الإنترنت وربما إطلاق صحيفة يوميّة حديثة تتولى التعبير عن أفكار الحزب في مواجهة تيار الصحافة المردوخيّة (نسبة إلى روبرت ماردوخ بارون الصحافة اليمينيّة)، ومساندة المنظمات الشبابية المساندة للحزب لا سيما في الجامعات وغيرها من التكتيكات المرحليّة.
تأييد قطاع الشباب الجارف للحزب ينبغي أن يدفع فريق كوربن إلى سحب سياسات الحزب باتجاه الجذريّة بدلاً من تلك الوسطيّة الحذرة كما في المانيفستو الحالي. ليس بالضرورة أن يتبنى الحزب في هذه المرحلة برنامج الحد الأقصى، لكن تقديم بديل موضوعي للجيل الطالع من خلال تبني برنامج حد أدنى ماركسي هو بالفعل ما يتوقعه الجمهور من كوربن بالذات، وأي تردد هنا سيفقد الشباب البريطاني الثقة في كل تجربة اليسار ويضيع الفرصة التاريخية لكسر هيمنة اليمين على السياسة البريطانية.
لحظة كوربن في بريطانيا اليوم، نافذة لم تفتح منذ مئة عام، وقد لا تفتح مرة أخرى في أي مدى منظور. إنها لحظة واعدة على اليسار البريطاني تلقفها للارتقاء لمستوى المرحلة التاريخيّة، فيكون في جهوزية تامة سواء سقطت تيريزا ماي غداً أو بعد خمس سنوات. بغير ذلك فستُطرح الأسئلة عن جدوى اليسار، وسينتهي الشباب إلى البحث عن طرائق للمواجهة من داخل المنظومة الرأسماليّة المعولمة ذاتها.
* باحث عربي في الشؤون الأوروبية