التسلسل الزمني لانتكاسات التيارات البديلة في أوروبا يوضح انعدام وجود أفق لدى هؤلاء، عدا بناء نموذج الاحتجاج والذهاب به وفق تصوّرات أوّلية وغير ناضجة إلى السلطة. المؤشّر الأول على التعارض بين الاحتجاج وفقاً لهذا التصوُّر والإمساك بالسلطة هو فشل حزب «سيريزا» في الحفاظ على التماسك الداخلي بمجرّد وصول المواجهة بينه وبين مؤسّسات الاتحاد الأوروبي إلى ذروتها.
فبدلاً من الاستفادة من الراديكالية التي وسّعت قاعدة الحزب الجماهيرية على خلفية عدم الإذعان لإملاءات الترويكا الأوروبية، اختار تسيبراس وصحبه التوقّف عن تطوير التجربة التي ألهمت إلى جانب نظيرتها في إسبانيا معظم قواعد اليسار في العالم وفتحت لأوّل مرة منذ القطيعة النيوليبرالية أفقاً فعليا لتجاوز النموذج الرأسمالي القائم في أوروبا الغربية.

درس سيريزا

الخلل هنا ليس في إدارة الاحتجاج ذاته، بل في انعدام وجود تصوُّر له حينما ينتقل من الشارع إلى المؤسّسات المنتخبة. هذه هي المشكلة التي دفعت بيانيس فاروفاكيس، المنظّر الفعلي لـ«سيريزا» وأوّل وزير مالية في حكومة تسيبراس إلى الاستقالة، بعدما أدار لأسابيع مفاوضات الحكومة اليونانية مع الترويكا الأوروبية وصندوق النقد الدولي.

انعدام وجود أدوات لتشخيص
الأزمة دفع إلى الأمام
بخطاب سياسات الهوية
فاروفاكيس كان يملك، بخلاف تسيبراس والجناح اليميني داخل الحزب، تصوُّراً فعلياً للغاية من التفاوض مع أوروبا على موضوع القروض. فبالنسبة إليه التفاوض هو أداة في يد الحكومة اليونانية المنتخبة لانتزاع أكبر قدر من التنازلات من الترويكا، وعدم تركها تضع شروطاً على اليونان أكثر ممّا فعلت. هذا التصوُّر المبني على أساس متين وضعه منذ البداية في صدام مع المؤسّسات الأوروبية الدائنة التي كانت تفضّل مفاوضين أقلَّ صلابة وأكثر قبولاً بإملاءاتها. بعد جولات مديدة من النقاشات رُفضت كلّ طروحاته، فعاد إلى حزبه وحكومته لبناء استراتيجية جديدة للتفاوض، لكنه فوجئ برغبة الحزب في استبدال شخصية «وسطية» به لا تكون صدامية مثله وتساعد في الوقت ذاته على الإفراج عن حزم القروض التي تحتاجها الحكومة لضخّ السيولة في الاقتصاد. تفضيل تسيبراس حصول نموّ بفضل الاستدانة بدلاً من رفضها والتعويل على إعادة توزيع الفائض في الداخل، قاد فضلاً عن خروج فاروفاكيس من الحزب إلى قطيعة مع نهج الاحتجاج الذي أوصل «سيريزا» إلى السلطة. وبذلك تحوَّل الحزب الذي أتى لرفض سياسات التقشّف إلى «أداة» تستخدمها الترويكا لتمرير المزيد من هذه السياسات بحجة أنّ رفضها سيؤول في النهاية إلى الإقرار بها على قاعدة فشل البديل في تقديم نموذج مغاير لها.

إدارة الانهيار

هذه النهاية ترافقت مع صعود تيارات اليمين المتطرف التي تتقاطع مع اليسار في رفض إملاءات الاتحاد الأوروبي، ولكن من دون امتلاك الأدوات الفعلية لتفكيكها كما يفعل اليسار. انعدام وجود أدوات لتشخيص الأزمة مع المؤسّسات الأوروبية غير التمثيلية دفع إلى الأمام بخطاب يتمحور حول سياسات الهوية، ويفسّر بها لا بالتحليل الطبقي أسباب الأزمات الاقتصادية التي أودت باقتصادات بلدان الجنوب الأوروبي. هكذا، غدا التنافس على فرص العمل بين المهاجرين الفقراء إلى أوروبا والطبقة العاملة في هذه البلدان هو السبب في أزمة البطالة التي تعاني منها دول الجنوب. وبدلاً من التصويب على سياسات الحكومات التي سبّبت هذا التنافس عبر خلق تناقض بين فقراء أوروبا وفقراء العالم الثالث المهاجرين إليها يُوضَع الأخيرون في الواجهة، وتُنسَب إليهم بحجّة صعود «داعش» أفعال يمكن حدوثها في أيّ بلد تنفجر فيه أزمة اقتصادية بفعل سياسات رأسمالية معينة. ولأنّ اليمين المتطرف يفتقر إلى هذه الرؤية ويكتفي بالتقاطعات السطحية التي تجمعه باليسار سُمِح له بالصعود على أمل تنفيس الاحتقان الذي تعيشه الطبقات العاملة في أوروبا على خلفية انهيار مستوى معيشتها. وهو ما أدّى لاحقاً إلى انفضاض هذه الشرائح عنه بعدما تبيّن لها أن طروحاته لا تختلف كثيراً عن طروحات اليمين التقليدي، وتكاد تكون تعبيراً عن صراع بين وجهتين داخل الرأسمالية الأوروبية ذاتها. الأولى مستفيدة من العولمة وتريد المزيد من اتفاقات التجارة الحرّة التي تتيح للتراكم الرأسمالي بأن ينمو بسرعة أكبر، والثانية لا تعارض العولمة من حيث المبدأ ولكنها تريد تقييد هذا النمط من التراكم بحيث لا تستفيد منه إلا الفئات التي تُعتبر من وجهة نظرها حضن الرأسمالية الأوروبية الفعلية. وبين هذين الوجهتين تنهار طبقات بأكملها وتحصل أكبر عملية نهب في تاريخ أوروبا، ثمّ يُسمح لوجهة معينة بالصعود فقط لكي تزيد الانقسام داخل أوروبا وتضفي على الصراع بعداً ثقافوياً قبل أن تنحسر تدريجاً وتعود الوجهة الأساسية التي تقودها الرساميل الكبرى والاحتكارات والبنوك إلى الواجهة عبر أشخاص مثل إيمانويل ماكرون وسواه.
خاتمة
هذا لا يعني انعدام وجود بدائل حقيقية في أوروبا، ولكنه يضع أمام هذه الأخيرة احتمالات ليس من بينها أن تكون قادرة على إدارة صراع متكافئ مع مؤسّسات بيروقراطية اختيرت لتكون الأفق الوحيد الممكن أمام مواطني هذه الدول. فمع هيمنة ألمانيا المطلقة على السياسات الاقتصادية لأوروبا يستحيل قيام اعتراض ما لم يكن ثمّة ترابط بين نضالات الأحزاب التي تخوض الصراع ضدّ إملاءاتها هنا وهناك. وهو ما حاول «سيريزا» فعله حينما وضع صعوده إلى السلطة في سياق صعود «بوديموس» في إسبانيا قبل أن تنهار التجربة بالكامل، ويعود اليسار ليواجه إملاءات ألمانيا والاتحاد الأوروبي على نحو غير مترابط، وبسقف لا يتجاوز المساومة على رفض سياسات التقشف.