أفلام كارول منصور طالعة دائماً من جراح الإنسانيّة، وتعتمد قبل كل شيء على العنصر البشري. وهي تبرع تحديداً في تصوير النساء. في اختراق عوالمهنّ الحميمة، وجعلهنّ يستعدن السلطة، أي أدوات التعبير، عن طريق السرد. أكان الأمر يتعلّق بالخادمات، باللاجئات السوريات، أم بنساء الشتات الفلسطيني. الباقي، رغم اللغة الفنية المتقنة في أعمالها، تفاصيل. الناس هم أفلامها، أولئك الذين تلتقيهم، وتسبر ذاكرتهم، وتغوص في جراحهم.
(عذراً على «المذكّر»، فهو في غير مكانه في هذه السينما المؤنّثة بامتياز). الكاميرا، غير مرئية في أفلامها، نكاد نكتب غير موجودة: إنّها عينها التي ترى، وتجعلنا نرى… الباقي في الكلمات، في الحكايات، في البوح الذي يشبه نزفاً هادئاً، في تفاصيل الوجوه والأمكنة والأيدي والأصوات والشهادات الآسرة. هذه المرّة، في شريطها الأخير «خيوط السرد» الذي يعاد عرضه الليلة في «مسرح المدينة»، يجب أن نضيف «الخرائط»… إلى العناصر البصريّة التي تقول الوجع الغائر، والغربة على أشكالها، والاحتجاج المكتوم. لعبة التحريك التي تأخذنا بين البلدان والقارات، لمحاولة إعادة رسم خريطة الشتات الفلسطيني، وتجسيد ملحمة الترحال الدائم بحثاً عن وطن مستحيل بقياس العالم (رسوم فرات الشهال). تأخذنا كارول بين الحكايات التي توازيها بصريّاً، وتربط بينها، يدان أنثويتان تطرزان بالإبرة والخيوط الملوّنة. السرد كالتطريز، التطريز كرسم الخرائط، الخرائط مسكونة بألبومات حميمة، بالصور القديمة والملطقات والأرشيف.
التطريز. تلك اللعبة المركزيّة والحيويّة والعضوية، والدرامية بامتياز… حولها تبني لعبة السرد، كمن ينسج خيوط الحكاية، خيوط السرد التي تفضي كلها إلى فلسطين، بين حضور مادي، وحضور في الوجدان، وانتماء كياني، ووطن افتراضي لا يحييه إلا السرد، إلا الفن، إلا الثقافة، إلا الذاكرة. وكل هذه العناصر تلتقي حول عملية التطريز. أخذوا البلاد، لكن لا أحد يستطع أن يأخذ منا الثوب الفلسطيني. والثوب نسائي بامتياز. كل صبية تخيط جهازها، جهاز العروس، قطعة قطعة، وتضعها في الصندوق. كل واحدة من النساء الاثنتي عشرة اللواتي جلسن أمام كاميرا كارول منصور، تحمل ثوبها بين جراحها، في الحقيبة، في الصندوق، بين الأوطان الموقتة والمنافي، أو في الداخل حيث البقاء فعل مقاومة وتمرّد. هذا الثوب هو الموضوع، عنوان الانتماء. وهو جواز السفر بين حكايات متقاطعة تلتقي كلّها عند فلسطين، تحمل تجارب الاقتلاع، وخيارات المقاومة، ومشاعر الزمن المسروق مثل البيت الأوّل، والأرض، والهويّة. السرد من أجل البقاء، من أجل إحياء الوطن المسبيّ، الحقوق والكيان والأرض والكرامة. تقول سحر مندور في نصها الذي يرافق الصور ومشاهد البوح، ويشكل العمود الفقري للفيلم: «داخل خريطة فلسطين كانت القصص كالخيوط تنفصل وتلتقي، تحكي وتخفي، تلتقي عند عقدة الاحتلال التي أعادت توزيع السياقات ورمت الخيوط في كل اتجاه (…) وجعلت للحياة الواحدة خيطين اثنين: واحد يجري واقعاً، وآخر كان ليجري…». الراديو أيضاً ينقل رسائل المقتلعين: «من عمان إلى الخليل: لن نتمكن من الحضور، الرجاء منكم أن تتصرّفوا بالزيتون». أو صوت عبد الحليم: «ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان»… وصوت ناي البرغوثي الذي يمسك بالفيلم من خلال أغنية شهيرة في الفولكلور الفلسطيني: «يما مويل الهوى/ يمّا مويليّا/ ضرب الخناجر ولا/ حكم النذل فيّا»…
كما أسلفنا، أفلام كارول هي نسويّة بامتياز. كأنها تبلغ ذروة فنّها حين تندسّ في هذا العالم المكتوم غالباً، الممنوع، المغيّب، المنسي الذي يختزن أسرار العالم، عذاباته وأحلامه. و«خيوط السرد» (بحث منى خالدي، إنتاج «فوروود فيلم بروداكشن» مع «مؤسسة التعاون ــ لبنان»، ومؤسسة «إنعاش»)، هو ذروة في هذا السياق، نضجاً فنياً ودراميّاً، تصويراً وتوليفاً، فكرة ونصّاً وشهادات: 12 امرأة فلسطينية أمام الكاميرا للحديث عن حياتهن قبل الشتات، عن أحلامهن، وحيواتهن، وهوياتهن، فيما تترابط قصصهن بخيوط فن التطريز القديم. سعاد العامري، وليلى عطشان، وملاك الحسيني عبد الرحيم، وهدى الإمام، وأمل كعوش، وليلى خالد، وماري نزال بطاينة، ودينا ناصر، ونظمية سالم، ورائدة طه، وسيما طوقان غندور، وسلمى الأسير. اثنتا عشرة امرأة من شرائح عمريّة متعددة، وطبقات اجتماعيّة مختلفة: كادحات وأرستقراطيات، نزيلات الشقق الوثيرة أو المخيّمات، بينهنّ المناضلة، والفنانة، والمثقفة، وربّة المنزل، والمعمارة، والناشطة اجتماعياً وثقافيّاً وحقوقياً وسياسياً. نساء فلسطينيّات سافرن، وتشردن، وهاجرن أو بقين في أرض الوطن المحتل، يتحدثن من أماكن مختلفة تختزن عبق الوطن وحلم العودة: أماكن تراوح بين المنافي المختلفة وفلسطين المحتلّة اليوم. يطرزن محطات ولوحات من تلك الملحمة الكبرى، تلك التغريبة بالأحرى، في الطريق المحتومة إلى فلسطين. شكراً كارول، تلك هي المقاومة أيضاً. أنساك يا يميني… ولا أنسى فلسطين.

«خيوط السرد» لكارول منصور: 19:30 الليلة في «مسرح المدينة»