عندما تذهب سكرة قانون الانتخابات الجديد، ويبدأ التفكير في النتائج التي ستحصدها القوى السياسية، سيتبيّن أنّ «ملك الخاسرين» هو رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، الذي سيفقد نحو نصف أعضاء كتلته.
هذه الخسارة ــــ التي يتوقّعها مستقبليون قبل خصومهم ــــ ليست نتيجة القانون وحده، بل هي تتويج لمسار انحداري، منذ عام 2009، سياسياً وإدارياً وتنظيمياً ومالياً، وظهرت نتائجه جلية في بيروت وطرابلس في الانتخابات البلدية الأخيرة. ويتوقّع مستقبليون كثر أن تتظهّر بصورة أقسى في الانتخابات النيابية المقبلة.
قد يكون مبكراً الحديث عن نهاية لـ «الحريرية السياسية» التي قادها رئيس الحكومة بعد اغتيال والده في شباط 2005، وتوّجها بانتخابات تزعّم فيها أكبر كتلة في المجلس النيابي، ثم بوصوله إلى الرئاسة الثالثة. غير أن القانون الجديد سيشهد، بالتأكيد، هزيمة غير مسبوقة لـ«الحريرية». فالنسبية ستعيد كتلة المستقبل إلى حجمها الطبيعي، بعدما بنى الحريري جزءاً كبيراً من نفوذه السياسي على كونه رئيس كتلة من 33 نائباً. والتقديرات أن الحريري لن يكون قادراً، في الانتخابات المقبلة، على جمع كتلة من أكثر من 20 نائباً في أحسن الأحوال. فيما تشير تقديرات يتداولها مسؤولون ونواب في تيار المستقبل إلى أن الفوز بـ18 مقعداً هو أقصى الطموح حالياً.

خسارة «غير الشرعيين»

يقسّم مستقبليون نواب «الكتلة الزرقاء» إلى ثلاث فئات:
ــــ نواب شرعيون، يمكنهم الفوز بمقاعدهم، أو على الأقل أن ينافسوا عليها جدياً، في أي انتخابات وطبقاً لأي قانون. وغالبية هؤلاء من الطائفة السنية.
ــــ نواب «غير شرعيين»، وهم الذين حصل عليهم الحريري من دون أي وجه حق، كالنواب الشيعة الثلاثة في لائحته، والنائبين العلويين، وواحد على الأقل من نائبيه في الأشرفية، واثنين من نوابه المسيحيين الثلاثة في عكار، يُضاف إليهم واحد من نوابه المسيحيين الثلاثة في ما كانت تُسمى بيروت الثالثة، وأحد نائبيه في الكورة. ومع أن كل الكتل الكبرى تضم هذا النوع من «النواب غير الشرعيين»، إلا أن الفارق أن عددهم في كتلة المستقبل ضخم جداً، ويصل إلى نحو 10 نواب على الأقل.
ــــ الفئة الثالثة تضم النواب الذين يمنحهم النظام الأكثري للكتل الكبرى، سواء بسبب طبيعة هذا النظام «الإقصائية»، أو بسبب الفارق الكبير بين عدد الناخبين المسلمين والمسيحيين.
الخسارة الكبرى سيتكبّدها الحريري ستكون في الفئتين الثانية والثالثة. فقبل دخول الانتخابات وفق «النسبية»، سيخسر نواب الفئة الثانية جميعاً.
مناطقياً، بحسب أولويات تيار المُستقبل، تدخل كل من بيروت وعكار وطرابلس ضمن ما يعتبره الحريري «حصوناً» رئيسية. ومع ذلك، يرجح أن تكون نتائجه في هذه الحصون الثلاثة مدوّية.
ففي بيروت التي بنى الرئيس رفيق الحريري مجده عليها، بتحقيقه نصراً كاسحاً فيها عام 2000، لن يكون للحريري الابن فيها أكثر من ستة نواب (من أصل 19 نائباً)، من بينهم حليفاه تمام سلام وفؤاد مخزومي. وفي بيروت الأولى، حيث يوجد نحو 7200 صوت سنّي، قد يتمكّن تيار «المستقبل» من الاحتفاظ بمقعد مسيحي واحد (أرمني).

يصل مستقبليون في تشاؤمهم إلى حد توقع تقلّص عدد أعضاء الكتلة
إلى 15 نائباً

أما «الطامة» الكبرى، فستكون في بيروت الثانية (كانت تسمّى الدائرة الثالثة في قانون الستين، وتضم 10 مقاعد جاءت كلها لمصلحة لائحة الحريري). فهذه القلعة التي احتكرها التيار الأزرق، وغابت عنها عطاءات الحريري وخدماته، ستكون بحسب التقسيمات الجديدة خاصرته الرخوة. وبحسابات اليوم، تضم هذه الدائرة نحو 350 ألف ناخب. وإذا انتخب منهم 55 في المئة (وهي نسبة قياسية) أي نحو 192 ألف ناخب، ستتمكن كل لائحة تحصل على 17500 صوت من حجز مقعد لها. وبذلك سيأخذ كل من حزب الله وحركة أمل المقعدين الشيعيين، وسيدعمان حلفاءهما من الطائفة السنية (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية الأحباش، مثلاً) لحجز مقعد سني. كذلك يمكن الأحزاب المسيحية حجز مقعد واحد من المقعدَين المسيحيَّين. وبالعودة إلى الأصوات التي نالتها «بيروت مدينتي» في الانتخابات البلدية الأخيرة (في الدائرة الثالثة) والتي وصلت إلى 18 ألف صوت للأول (إبراهيم منيمنة) وأكثر من 15 ألف للأخير، (علماً أنها لم تملك وقتاً كافياً للقيام بحملة انتخابية ترويجية لنفسها)، فإنه سيكون أيضاً باستطاعتها حجز مقعد لها. صحيح أن «بيروت مدينتي» سبق أن أعلنت أنها لن تخوض هذه الانتخابات، لكن يتردد أن منيمنة الذي يفتح خطّ اتصال مع قوى سياسية مناوئة للحريري قد يرشح نفسه. كذلك يستعد الوزير السابق أشرف ريفي لإعلان لائحة في بيروت، أو على الأقل لإعلان دعم شخصيات محددة. وإذا توحّدت قوى من خارج الطقم التقليدي (مجموعات كـ«مواطنون ومواطنات في دولة»، بالشراكة مع مجموعات من المجتمع المدني)، فستكون لها فرصة المنافسة على مقعد عن هذه الدائرة. وهذا يعني أن الحريري، إن حالفه الحظ، وتحالف مع سلام ومخزومي والجماعة الإسلامية والنائب وليد جنبلاط، سيتمكّن في هذه الدائرة من أن يحصد 4 مقاعد سنية ومقعداً مسيحياً كحد أقصى. النتيجة في دائرتَي بيروت: 6 مقاعد لكتلة المستقبل!
لن يكون الحال أفضل في دائرة طرابلس ــ المنية ــ الضنية. فقد أثبتت الانتخابات البلدية الأخيرة أن صورة رفيق الحريري لم تعُد تكفي لجلب الأصوات بكثافة ساحقة إلى صناديق الاقتراع. عناصر المشهد في هذه الدائرة تغيّرت كثيراً منذ خاض فيها الحريري آخر انتخابات نيابية. وترجح التقديرات أن الحريري سيخسر في هذه الدائرة على الأقل نائباً علوياً، ونائباً مسيحياً، و3 نواب لمصلحة الوزير ريفي. وقد يحصد الرئيس نجيب ميقاتي والنائب السابق جهاد الصمد 3 نواب، ليبقى للحريري فيها 3 مقاعد (2 سنة وواحد مسيحي).
وفي عكار، سيخسر «المستقبل» نائباً علوياً لمصلحة فريق 8 آذار. وفي حال تحالُف ريفي مع النائب خالد الضاهر، سيتمكّن هذا الثنائي من حجز مقعد لهما عن هذه الدائرة. كذلك سيفقد التيار الأزرق مقعدين مسيحيين من مقاعده الثلاثة، وبالنتيجة ستبقى له 3 مقاعد من أصل 7.
وفي البقاع الغربي، سيخوض تيار المستقبل معركة جدّية. زعامة المنطقة لن تكون في متناوله بعد الآن. فريفي والوزير عبد الرحيم مراد سيكونان له في المرصاد، كل على حدة. وفي حال نيل مرشح ريفي 15 في المئة من أصوات السنّة، سيتمكن مراد من الحصول على أعلى نسبة من الأصوات التفضيلية في الدائرة. في هذه الدائرة التي يحجز فيها الحريري لنفسه 4 مقاعد، سيخسر النائب الشيعي، كذلك فإن النائب روبير غانم المحسوب عليه لن يكون فوزه مضموناً، وبالتالي سيبقى له مقعد سني واحد، ومقعد مسيحي. مقعدان في أفضل السيناريوهات.

مقعد في صيدا

ماذا عن صيدا؟ يبدو أن هذه المدينة ستحمل إلى الرئيس الحريري مفاجأة غير سارة. «المستقبل» في هذا القانون لم يعُد يملك زمام المبادرة في حسم النتائج لمصلحته، وبالتالي لن تسقط اللوائح «زي ما هي» في جيبه. خسارة «المستقبل» في منطقة كصيدا، لها رمزية سياسية أكثر منها انتخابية. فهي مسقط رأس الشهيد رفيق الحريري وخزانه الشعبي. وهي المدينة التي تغرّب شبابها ورجالها وعائلاتها للعمل في شركة «سعودي أوجيه» في الرياض. هذه العائلات التي تجرعت الأمرّين نتيجة الأزمة المالية التي مرّ بها التيار، وانهيار الشركة، وأدت بهم للعودة إلى بلادهم «إيد لورا وإيد لقدّام»، من دون تعويضات مالية ولا رواتب منذ عامين. مشكلة سعد الحريري في هذه المدينة ليست إذاً سياسية فقط، بل مالية وإنمائية. على الرغم من حصر الصوت التفضيلي في القضاء، لقطع الطريق على النائب السابق أسامة سعد، لن يتمكّن التيار من الفوز بمقعدين، بسبب استحالة تقسيم الأصوات التفضيلية بالتساوي بين المرشحين. وإن كانت هناك لائحة للإسلاميين يغرفون من صحن المستقبل نفسه، فإن فوز سعد قد يكون محسوماً.

في بيروت، لن يكون للحريري أكثر من ستة نواب (من أصل 19)،
من بينهم حليفاه سلام ومخزومي

وفيما يمكن التيار الفوز مجدداً بمقعده في إقليم الخروب (الشوف)، سيتمكن في البقاع الشمالي من الفوز بمقعد واحد على الأقل، مع احتمال أن يفوز في دائرة (مرجعيون ــ حاصبيا) بمقعد أيضاً. أما في دائرة الكورة التي أعلن النائب فريد مكاري عدم ترشّحه فيها، فسيحافظ الحريري على مقعد أرثوذوكسي إذا جيّر مكاري أصواته إلى المرشح الحريري الجديد. كذلك يمكنه الفوز مجدداً بمقعد في البقاع الأوسط.
ما تقدّم يعني الحسبة الآتية:
6 نواب في بيروت، 3 في عكار، 3 في طرابلس ــ المنية الضنية، 1 في الكورة، 1 في البقاع الاوسط، 1 في البقاع الشمالي، 2 في البقاع الغربي، 1 في حاصبيا، 1 في صيدا، 1 في إقليم الخروب. والنتيجة: 20 نائباً، بينهم الرئيس تمام سلام وفؤاد مخزومي. ويعني ذلك أن كتلة المستقبل ستضم 18 نائباً فقط، فيما هي اليوم تضم 33 نائباً. ويشير أحد خبراء الإحصاءات الانتخابية إلى احتمال أن يحصل الحريري أيضاً على مقعد إضافي في دائرة طرابلس ــ المنية ــ الضنية، وعلى حجز مقعد ثانٍ (غير سني، في دائرة صيدا ــ جزين)، واحتمال حصوله على مقعد ثان في بعلبك ــ الهرمل. وبذلك، يرتفع عدد أعضاء كتلة المستقبل إلى 21 مقعداً. وهنا، الحديث يجري عن أفضل سيناريو ممكن للحريري، انتخابياً، وفي الأداء الحكومي قبل الانتخابات، وبحصوله على مال انتخابي وفير.
لكن ماذا يعني ذلك؟ يعني أن على الحريري أن يستعد لواقع جديد في الحياة السياسية:
أولاً، سيفقد الأحادية داخل البيئة السّنية. وللمرّة الأولى منذ التسعينيات سيُعاد تشكيل هذه البيئة على أكثر من قوة سياسية وازنة. وبالتالي عليه أن يتقبّل واقع وجود رباعية في الطائفة السنية (الحريري، نجيب ميقاتي، أشرف ريفي، قوى 8 آذار).
ثانياً: ستنتفي عن «المستقبل» صفته كتيار عابر للطوائف. لأن التيارات المسيحية الأخرى ستستعيد معظم مقاعد النواب المسيحيين التي «تمّ الاستيلاء» عليها. وباستثناء مكاري والنائب هادي حبيش، لن يبقى لكتلة المستقبل عضو مسيحي «وازن». كذلك ستُنتزع منه المقاعد الشيعية والعلوية.
ثالثاً، سيُصبح «المستقبل» تياراً سياسياً عادياً. وستكون المرّة الأولى التي سيتراجع فيها إلى هذا الحدّ، في ظل غياب أي حاضنة إقليمية فعلية له. وتجريده من أي عنوان سياسي (كسلاح حزب الله والمحكمة الدولية). أو عناوين اقتصادية من تلك التي كان يحملها والده.
يُمكن الرئيس الحريري أن يعتبر قانون الانتخابات الجديد «إنجازاً تاريخياً» كما قال أمس. لكن ذلك لا ينفي حقيقة أنه خاسر. فشل الرجل في التجارة والأعمال. وفشل في الزعامة الجماهيرية. وفي الحفاظ على النفوذ السعودي وحتى على تحالفاته القديمة. كل الوعود التي لم ينجزها الحريري الابن لأهالي بيروت والشمال والبقاع والإقليم، سيدفع ثمنها ضموراً لإمبراطورية تحكمت بمفاصل النظام السياسي طوال سنوات. يسجّل للرجل خوفه على الاستقرار، وهاجسه من التحولات المباغتة الجارية في أكثر من بلد عربي وخليجي، وفي ظل الرهان على تحولات إقليمية لا تصبّ في مصلحته. وهو أمر دفعه مكرهاً إلى القبول بهذا القانون، مهما بلغ حجم الخسارة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فقد بات الحريري على قناعة تامة بأن تحالفه مع التيار الوطني الحرّ، وتفاهمه مع حزب الله (تحت الطاولة) وحدهما ما يضمنان له رئاسة الحكومة. وبالتالي «15 نائباً مع رئاسة الحكومة في الجيب، أفضل من 60 نائباً في البرلمان بلا رئاسة»!




مشاريع حكومية... ومال انتخابي

تقول مصادر بارزة في تيار المستقبل إنّ «النتائج على أساس النسبية في 15 دائرة ستكون أفضل بالنسبة لنا من الستين». تُصر المصادر على ذلك، في وقت تشير فيه أرقام الماكينة الانتخابية للتيار الأزرق إلى أنّ النسبية ستؤدي إلى خسارة كتلة «المستقبل» عدداً لا يُستهان به من المقاعد. ولكن المصادر تنطلق من واقع أنّ «التحالف مع أي فريق مسيحي في الستين، سيؤدي حُكماً إلى مطالبته باسترجاع مقاعد طائفته، ونُتهم بأننا أكبر فريق يستحوذ على مقاعد مخصصة لطوائف أخرى. النسبية ستُحررنا من هذا الضغط». ووفق الدراسة الأولية التي يتسلح بها المصدر «سنُحافظ على مقعد من اثنين في الكورة، وعلى مقعدين مسيحيين في عكار». أما ربح أشرف ريفي في طرابلس «فليس بالضرورة أن يكون على حسابنا. قد يخسر المقاعد أي نائب آخر أقلّ تمثيلاً من المستقبل»، في إشارة إلى النائبين أحمد كرامي ومحمد الصفدي. ومقابل خسارة مقعد ربّما في صيدا أو البقاع الغربي «نستطيع أن نفوز بمقعد في بعلبك ــ الهرمل وفي مرجعيون ــ حاصبيا». وترى مصادر مستقبلية رفيعة المستوى أن «الاوضاع الشعبية يمكن أن تتحسّن قبل موعد الانتخابات، لأن الحكومة ستُنجز العديد من الملفات والمشاريع». ويلفت مقربون من الحريري إلى احتمال تخصيصه مبالغ مالية كبيرة للإنفاق في الدوائر التي يرى فيها صعوبات تواجهه.