«نحن بشكل متزايد نعيش على حبوب الذرة من الحصادات السابقة»آلان غرينسبان

هناك كتاب آخر يخيم شبحه على الريعيين. الكل يعرف الآن عن كتاب توماس بيكيتي: "الرأسمال في القرن الواحد والعشرين"، الذي صدر في عام 2014 وتحول الى أكثر الكتب الاقتصادية مبيعاً في العالم في التاريخ الحديث، إذ بيع أكثر من مليوني نسخة حتى الآن وترجم الى أكثر من 30 لغة، وأصبح أيضاً أكثر الكتب مناقشة من قبل الاقتصاديين وغيرهم.

ففي الاجتماع السنوي للجمعية الاقتصادية الأميركية في عام 2015، لم تعد القاعة التي قدم فيها بيكيتي كتابه تسع للمشاركين، وعلّق احدهم يومها بالقول "لو حضر مسؤولو الإطفاء لأخرجوا أكثر من 150 شخصاً من القاعة".
لماذا حدث كل هذا؟ ولماذا أصبح كتاب اقتصادي من 700 صفحة مليئاً بالتحليل الصعب والمعطيات من أكثر الكتب مبيعاً أو "best seller"؟ السبب بالتأكيد يكمن في رسالته الأساسية، إذ بعد أكثر من ثلاثين عاماً من "انتصار الرأسمالية" أتى من يبرهن أن الرأسمالية في تلك الفترة أعادت إنتاج درجة عالية من عدم المساواة في الدخل والثروة، بشكل أعاد العالم الى فترة ما عرف بـ"العصر المذهب" (The gilded age) خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، حيث قلة تسيطر على أكثرية الثروة، والذي كان من المفترض أنه انتهى الى غير رجعة. وأكيد أيضاً أن الناس كانوا يعلمون ذلك من ظروفهم الاقتصادية التي يعيشونها، وكانوا يرون كيف أن طبقة معينة منهم كانت تستحوذ أكثر وأكثر، بينما هم يرون أوضاعهم تبقى على حالها ويفقدون أمانهم الوظيفي، ويرون أن أجورهم لم تعد تخوّلهم ولن تخول أولادهم الارتقاء الاجتماعي والحصول على التعليم العالي، وسط زعزعة "الطبقة المتوسطة"، التي بنيت عليها آمال الرأسمالية الكينزية والديموقراطية الاجتماعية التي حكمت الولايات المتحدة وأوروبا بشكل متفاوت بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن لو كان فقط هذا ما قاله أو برهنه بيكيتي لما كان استحوذ على كل هذه الشهرة والاهتمام، والانتقاد العنيف أيضاً، لأن اقتصاديين غيره كانوا قد عرضوا لهذا التحول في توزع الدخل، ومن بينهم مشاهير في مجال توزع الدخل مثل أنتوني أتكينسون وبرانكو ميلانوفيش. لكن بيكيتي، بالإضافة الى استعماله مصادر معطيات جديدة، أهمها السجلات الضرائبية، والتي سمحت له بسبر أغوار عدم المساواة أكثر من غيره، إلا أن الأهم من ذلك أنه قدم هذه التحولات على أنها تخضع لـ"قوانين عامة" للرأسمالية وليست فقط قراءة لـ"معطيات" لا نعلم لماذا تحدث. كما أن طرحه لمفهوم "الرأسمال" مجدداً كمحدد لهذه الديناميكيات كان جديداً أيضاً. وبهذين الطرحين، أي "القوانين" و"الرأسمال"، بالإضافة الى عنوان كتابه، أعاد الى الساحة النظرية وبقوة طيف كارل ماركس.

بلع الماضي المستقبل وكبح تطور القوى المنتجة وأدى
الى تزايد عدم المساواة
ولهذا دب الرعب في صفوف الكثيرين. فأن تبرهن أن عدم المساواة يزداد شيء، ولكن أن تقول أيضاً إن هذا المنحى يخضع لقوانين اقتصادية واقتصادية - سياسية ويحددها "الرأسمال" شيء آخر مختلف جداً. فأكثر ما يخافه الرأسماليون أن يعاد التفكير في أن هناك قوانين تتحكم بمسار الرأسمالية، فهم اعتقدوا أن هذا انتهى الى غير رجعة مع خفوت تأثير ماركس بعد 1991. ففي مقالة للاقتصاديين أسيموغلو وروبنسون، وهما ليسا محافظين ولا يمينيين بأي مقياس، كان عنوانها لافتاً "صعود وسقوط القوانين العامة للرأسمالية"، انتقدا فيها بيكيتي من هذه الناحية بعدما مرا طبعاً في هذا الإطار على قوانين ماركس. وهكذا ارتبط نقد بيكيتي الحديث للرأسمالية بمنظومة كارل ماركس وإن لم يكن هو ماركسياً ولا الماركسيون أنفسهم أعفوه من انتقادهم القاسي أحياناً.
إن القانون الأساسي عند بيكيتي بسيط: عندما يكون معدل الربح أو العائد على الرأسمال أعلى من النمو الاقتصادي، فإن حصة الرأسمال من الناتج المحلي تزداد مع الوقت، وتتركز الثروة بأيدي القلة لأن ملكية الرأسمال مركزة في المجتمع. وعندما يحدث هذا الفارق لمدة طويلة، فإنه كما يقول بيكيتي ويؤكده بول كروغمان، "الماضي يبتلع المستقبل"، حيث المجتمع يصبح مسيطراً عليه من قبل الثروة الموروثة وتنشأ سلالات عائلية ثرية مسيطرة على الثروة والاقتصاد. ولكي يزيد الطين بلة، تنتقل الديناميكية أيضاً الى الاقتصاد السياسي، حيث إن أصحاب الثروات المركزة والأسواق المالية والمصارف تستعمل سلطتها الاقتصادية لتأبيد هذه القوانين والدفاع عن مصالحها سياسياً ضد أي محاولة لعكس المنحى التصاعدي في الاستحواذ على الثروة من قبلها كوضع الضرائب التصاعدية من قبل الدولة وغيرها من سياسات إعادة التوزيع.
من هنا يمكننا أن نرى أن لبنان يشكل اليوم مختبراً فريداً لطروحات "الرأسمال في القرن الواحد والعشرين". فتركز الثروة والدخل من الأعلى في العالم ومؤشراته عديدة من مؤشر جيني للثروة الذي يصدره بنك كريدي سويس والذي بلغ 0.85 في 2012 ويضع لبنان بعد روسيا وأوكرانيا في ترتيب سوء توزيع الدخل على المستوى العالمي، الى حصة الأجور المتدنية (حوالى 25% من مجمل الناتج المحلي) الى تركز الودائع في المصارف (1% من الحسابات تستحوذ على 50% من مجموع الودائع و0.1% من الحسابات تستحوذ على 20% بحسب صندوق النقد الدولي)، وصولاً الى استحواذ بضعة أثرياء على لائحة فوربس على ثروة توازي 20% من الناتج المحلي.
فنتيجة لسياسات المصرف المركزي منذ 1993 في رفع العوائد على الرأسمال وكبح التضخم، وتأثير السياسة هذه سلباً على النمو الاقتصادي، ارتفع العائد على الرأسمال بشكل مستدام نسبة الى النمو لمدة طويلة. تقرير البنك الدولي الصادر عام 2015 بعنوان "التوصل الى خفض الفقر والرفاهية التشاركية في لبنان" احتسب أنه في الفترة بين 1993 و2013 بلغ معدل الفارق بين العائد على الرأسمال في لبنان وبين النمو الاقتصادي 2.5% سنوياً، وقال عنه إنه "مرتفع"، وهو بالمناسبة قريب من الفوارق التي سادت في العصر المذهب. وهذا يعني أنه منذ 1993 زاد تراكم الثروة في لبنان لدى مالكي الرأسمال بشكل كبير نسبة إلى الذين يحصلون على دخلهم من العمل فقط. وهكذا ازدادت أيضاً سيطرة الثروة الموروثة (المتفلتة من الضرائب) وسيطرة السلالات الاقتصادية (انظر كتاب فواز طرابلسي "الطبقات في لبنان") وبالتالي سيطرة هؤلاء السياسية ونفوذهم في منع التشريعات والتغييرات في السياسات النقيضة لسلطتهم، وهو ما شهدناه أخيراً في عدم وضع ضرائب استثنائية على أرباح المصارف من "الهندسة المالية" لمصرف لبنان والهجوم الشرس للهيئات الاقتصادية وجمعية المصارف على الموازنة لتضمنها بعض الزيادات الضريبية البسيطة على عوائد الرأسمال.
هكذا في لبنان "بلع الماضي المستقبل" وكبح تطور القوى المنتجة وأدى الى تزايد عدم المساواة. وكل هذا لا يمكن حله عبر برامج طفيفة كالتعميم الأخير لمصرف لبنان لدعم الصناعة اللبنانية أو الحلول الليبرالية من شبكات أمان اجتماعي أو دعم للفقراء وغيرها من "الحسنات" أو حتى تغيير السياسات النقدية. ولهذا لم يكن مهماً، على الرغم من رمزيته، إن جدد لحاكم مصرف لبنان أو لم يجدد له لأن ديناميكية تركز الثروة وسيطرة التوريث تشكل ماحقة اقتصادية من المستحيل إيقافها عبر إجراءات نقدية فقط، فالحاجة الآن الى أكثر من ذلك لإيقاف هذا التطور الذي تودي فيه الرأسمالية اللبنانية بلبنان الى الهاوية لأنها هي نفسها عاجزة عن أن تنقذ نفسها بنفسها.