«الطوائف نعمة والطائفية نقمة»، جملة قالها الإمام السيد موسى الصدر تحمل في طياتها الكثير من الإشارات والدلالات؛ فما دامت الطوائف بما تحمل من موروث روحي وديني ومعرفي تسهم في تقدم المجتمع وبناء عقله المنفتح فهي نعمة، وما دامت الطائفية الضيقة في عصبياتها وانعكاساتها ونتائجها قائمة ومسيطرة فهي نقمة تلفح بنارها كل شيء جميل.
دأب أولياء الواقع منذ زمن طويل على المساهمة في تشكيل عقل جمعي يؤلِّه الشخص والزعيم، سواء أكان رجل دين أم سياسة. هذا العقل المفترض أن يحاسب ويراقب ويشارك في صوغ حياته بما يناسب طموحاته، استطاع أولياء الأمور المنصَّبون عبر العصور تفريغه من قوة الخلق والإبداع وأضحى أسير خطاب اجتراري مسلوب من الفائدة بما يتناسب مع الشخصنة التي يمجّدها كثيرون.
وإذا ما انتقلنا بالكلام عن فصل حركة الدين في الواقع عن السياسة اليومية للناس، فهذا بطبيعة الأمور ومنطقها غير ممكن، ولكن الدين بتأثيراته كموجّه للسياسة هو ما يجري التلاعب به خدمة لرجال السياسة وسطوتهم؛ فكما هو معروف تاريخياً، فإن الخطاب الديني من أهم العوامل التي تؤثر في تفاعل الفرد والجماعة مع القضايا المطروحة، ويسهم إلى حدّ كبير في التهاب المشاعر الدينية عند الناس بشكل يجعلهم يمارسون طقوساً ليس من منفعة فيها في كثير من الأحيان، لا بل تزيدهم انعزالاً واستلاباً للإرادة والحرية، بينما المطلوب من الخطاب الديني أساساً أن يكون عاملاً لإثبات الحقوق ورعايتها وحمايتها.
ومن ضمن هذه الحقوق، الحقوق العقلية، أي الإسهام في صوغ عقل جمعي منفتح يتحسّس آلامه وأمانيه ويعمل ليكون صاحب فعل لا منفعلاً، ويسعى لتأكيد قيمة العدل التي جاءت من أجلها الرسالات السماوية، العدل مع المجتمع الانساني الكبير.
من هنا رجل الدين هو بمعنى آخر سياسي يسعى لتأكيد حقوق الناس عبر حسن إدارة شؤونهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والانسانية بما يحقق مصالحهم وتقدمهم، فهو إذاً رجل دين يعيش الدين في أفقه الإنساني الواسع.
ولكن المفاجأة تكاد تصدمك عندما تجد البعض، حتى ممن ينتسب للدين ويحمل لواءه، غارقين في مظاهر سطحية لأنهم لم يتحسّسوا المسؤولية الدينية في العمق، ولم يتعاملوا معها على أنها رسالة، ولم يعوها وعي الجادين المخلصين، بل انجرفوا في تيار عام بات شاهداً على فظائع كثيرة، وأصبحتَ تتمنى أفولهم كونهم عاهدوا الشيطان ولم يعاهدوا الإنسان لجهة تثقيفه وتوجيهه ورعايته كما يجب، وهكذا بات توزع الأدوار علناً بين رجل الدين والسياسة، والقاسم المشترك خدمة مصالحهما وإبقاءها بعيدة عن الخطر.
فما يميّز العنصر الديني هو إسهامه الواعي في إعادة تشكيل التناقضات في الشخصية بما يؤهلها من جديد للمواجهة المقبلة مع الأنا والمحيط، واتخاذ موقف يتناسب مع ما هو مرتكز في الفطرة والوجدان من تنظيم كل التناقضات الاجتماعية وما تفرزه السياسة المنحرفة عن خطها الأصيل.
يقول المفكر علي شريعتي: «إن السمة الأساسية لهذا الدين – الدين التوحيدي – أنه يتفادى تبرير الوضع القائم تبريراً دينياً ولا يؤمن بمبدأ الرضوخ للأمر الواقع أو اتخاذ موقف اللامبالاة حيال ما يحيط به».
فهل نحن توحيديون عندما ننتهج نهج التبرير لإذعاننا الأعمى لخطابات فارهة تارة بزيّ السياسة وأخرى بزيّ الدين.
إننا نمارس شركاً من نوع آخر عندما نلجأ إلى قمع قوانا الذاتية التي أهّلها الخالق لتكون قوة تحفز على المواجهة ونستسلم لآلهة السياسة والدين.
من هنا، الدين هو ثورة مستمرة تعلو فوق لغة الزمن من أجل إبقاء جذوة التفكير والتحليل والنقد حية في النفوس من خلال منطق التذكر الدائم والاعتبار من مجمل اللحظات والمواقف التي تصيبنا وتتطلب منا صحوة فوق العادة.
إن السياسة دين والدين سياسة، كما يوضح المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله: «... إن السياسة بمعناها الإنساني هي دين، والدين بمعناه الإنساني الاجتماعي هو سياسة».
ولكن ضاعت الحدود واختلطت الأمور كثيراً على الناس، فما اعتدناه في مجتمعاتنا للأسف، وما تربّت عليه مشاعرنا، أن أخذنا السياسة بمعناها الضيق انطلاقاً من مبدأ تكريس زعامة موروثة أو وسيلة لصنع مجد شخصي وطائفي وما يترتب على ذلك من أساليب المكر واللعب على الغرائز الطائفية والمذهبية التي نتقنها ببراعة ومهما كانت أثمانها الباهظة على أمن الناس وأمانهم وحاضرهم ومستقبلهم، فلم تعد السياسة ديناً تحترم كرامة الإنسان، ولم يعد الدين في وظائفه الأساسية سياسة قويمة بوجه الانحرافات والتشوّهات التي أصابت وتصيب جسد الأمة، حيث صادر اللصوص الماكرون باسم الله خطابه السويّ.
ما نعيشه اليوم من ويلات وأزمات هو من لعنة لعبة السياسة التي لا تنتمي إلى فن السياسة الأصيل ولا إلى الدين المنفتح على القيم، بل السياسة النفعية المتوحشة المتجمّلة بمساحيق إنسانية خادعة.
إن من حق رجل الدين لا من صميم مسؤولياته السعي لحماية حقوق الناس وقيمهم وتأكيدها في الواقع ككل، ومنه السياسي، وإلا تحول إلى مراوغ وخائن لأمانة الله، وليس من حقه استثمار رمزيته وموقعيّته لإضفاء قداسة وهمية على رأي سياسي أو خط سياسي معين، كذلك فإن السياسة النظيفة تدفع نحو العمل الدؤوب من أجل حماية الإنسان من نفسه أولاً ومن غرائزه المنحرفة، والتوازن عبر الخروج والتمرد على عوالم الأنانيات لتتضح الرؤية أمامه ويعود إلى دوره الإنساني الطبيعي في النهوض والتمسك بالعدل والكرامة والحرية، هذه الحرية التي تريه خداع الأشخاص والأقنعة التي يتلطّون خلفها ويمارسون لعبتهم من خلالها.
قالها كارل ماركس يوماً وهو يعني ما يقول: «الطاغية مهمته أن يجعلك فقيراً وشيخ الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً».
من هنا نجد لاعبي سياسة يفقرون الناس عقلياً أيضاً بتكريسهم لشخصهم والسماح بـتأليههم، كما نجد شيوخهم الدنيويين يتنافسون لاستحضار خطاب فارغ معرفياً يحمل سموماً كثيرة في تغييبه لوعي الناس وقتله حريتهم وكراماتهم ومصادرتها من خلال الاستخفاف بهم وبقدرهم وآمالهم.
يقول دوستويفسكي: «إن في وسع المرء في كل ظرف من الظروف... أن يتصرف تصرفاً يحفظ له كرامته».
ننطلق من قوله لنقول إن علينا في المقابل مسؤوليات؛ فما نراه من موات اجتماعي وتصحّر إنساني بحجج مختلفة مرفوض، إذ يبقى المجال مفتوحاً لدى الإنسان، بما يملكه من مؤهلات عقلية ونفسية وروحية وفكرية، ليكون قادراً على تغيير المعادلات والتصرف بما يليق بكرامته التي لا تفريط فيها، لأن التفريط يعني ذهاب العقل وخواءه، وبالتالي دمار الحياة وانعدام سبلها.
تغييب وعيك وجعلك فقيراً عقلياً ومادياً قصة لا تنتهي. مأساة بدأت منذ القدم وتستمر حتى يسأم البعض من سوقهم لمشاريع شخصية وطائفية، ويبدأوا بالتحرك نحو إرجاع الصوت العالي في وجه السارقين والتجار ويجعلوا الغلبة لعقولهم عبر رفض تفريغها واستلابها، فمتى يعلو هذا الصوت؟
يضيف المفكر علي شريعتي في مكان آخر: «يمكننا القول إنّ البشرية تعيش اليوم ازدواجية المجتمع المتمدن والإنسان المتوحش، لهذا صعب علينا أن نصف إنسان هذا العصر بالمتطور أو بالمتخلف، إذ كيف يكون ذلك مع هكذا ازدواجية معقدة؟!».
نشهد سقوطاً مدوياً جراء هذه الازدواجية حيث التوحش الديني والسياسي يقبض على مفاتيح تشكيل وعينا وتاريخنا الاجتماعي، إذ لا إنسان موجود فعلاً ووجوده رهن بنهوضه من غفلته وإعلاء كلمته ومراجعة ما هو عليه وما يسمع وما يحمل من فكر وما ينتمي إليه من سياسة، لأن المسؤولية كبيرة وعامة، والتوحش موجود لدى كل فرد منا حتى نثبت عكس ذلك عملاً لا قولاً.
أنفاقٌ كثيرة أدخلنا في ظلامها بعض رجال السياسة والدين، وجعلوا المستقبل لا يبشِّر بالأمل ما دام الغلبة من تجار الدين والسياسة وبوتقتهم مشتركين في لعبة قد أدمنوها وتوزعوا أدوارها، وما دام الانسحاق والخنوع مسيطراً، فالسياسيون في معظمهم هم كما قال عنهم جون كوينتون: «السياسيون هم الأشخاص الذين عندما يرون الضوء في نهاية النفق يخرجون خارجاً ويقومون بشراء المزيد من الأنفاق».
فهل يأتي زمن نمارس فيه السياسة فناً لحسن إدارة الواقع، لا لعبة يلعبها ملوك الطوائف تحت شعار المؤسسات والدولة المدنية؟
نختم بالآية القرآنية المباركة التي صرّحت عن هدف السياسة في الحياة: «لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (الحديد: 25)».
* أكاديمي وحوزوي