فجأة، يعود «القذافيّون» إلى تصدّر أخبار المشهد الليبي. قبل إعلان «إخلاء سبيل» سيف الإسلام القذافي أول من أمس، كان يُقال إنّ «القذافيين» يمثلهم خليفة حفتر الذي يسيطر على شرق البلاد، والجنرال علي قانا صاحب النفوذ في الجنوب، فيما هناك أسماء أخرى خرجت من البلاد، وهي تقيم بصورة أساسية بين مصر والجزائر، وحتى سلطنة عمان (جزء من العائلة).
وكان بعض الإعلام، العربي والغربي، يتحدث بين حين وآخر عن «حنين ليبي إلى زمن العقيد القذافي»، ويشرح بشيء من التبسيط أنّ موالين له، خاصة في مدينتي سرت وسبها، انضووا تحت لواء «داعش، كما حال بعثيين في العراق»، فيما تجمّع آخرون ضمن «مجلس القبائل والمدن الليبية». لكنّ «القذافيين يعودون». هذه هي الخلاصة.
كثرٌ من «المحبّين» استذكروا واستعادوا، على مواقع التواصل الاجتماعي في اليومين الماضيين، الخطاب الأشهر للقذافي عام 2011 حين كانت مدينة بنغازي قد خرجت عليه، وانطلق «الدومينو». هم استذكروا في ذلك الخطاب الجملة التي يتوجه فيها إلى قطر، بالقول: «هذي آخرتها... قد تندمون يوم لا ينفع الندم».
من باب الاستطراد، لا حاجة ربما إلى الإعلان عن «إخلاء سبيل» سيف الإسلام (45 عاماً)، وليّ عهد والده حتى 2011، لاستذكار معمر القذافي. فعلى الرغم من مسيرته السيئة الذكر في تاريخ بلاده، لا يزال لخطاباته في قمم جامعة الدول العربية صدى إلى يومنا. «ما في حاجة تجمعنا أبداً، إلا هذه القاعة»، قال يوماً «لنظرائه» في قمة عام 2008 العربية، مضيفاً لدى مطالبته بإجراء «تحقيق في مقتل الرئيس العراقي صدام حسين»: «يمكن الدور جاي عليكم كلكم».
على أيّ حال، هكذا وببساطة أخلِي سبيل سيف الإسلام الصادرة بحقه في 2011 مذكرة توقيف من قبل المحكمة الجنائية الدولية والمحكوم عليه بالإعدام في 2015 من قبل محكمة في طرابلس، وخرج إلى أراضي «جماهيرية والده» المنقسمة بين ثلاث حكومات، والتي باتت قلة فقط تتابع تطوراتها راهناً، نظراً إلى الفوضى التي تعمُّها.
لا أحد يعرف شيئاً عن «الصفقة» التي خرج بمقتضاها حامل لواء «تحديث ليبيا» قبل 2011 والمتحصّل على شهادته من أعرق جامعات لندن، «جامعة لندن للاقتصاد» (سحبت منه لاحقاً). ولا أحد يعرف الوجهة التي أخذها منذ يوم الجمعة، أي قبل يوم من إصدار فصيل عسكري في مدينة الزنتان (170 كلم جنوب غرب طرابلس)، يُطلق على نفسه اسم «كتيبة أبو بكر الصديق»، بياناً يعلن فيه «إخلاء سبيله».
في منطق السياسة الليبية راهناً، فإنّ القرار صدر بالاستناد إلى «قانون العفو العام» الذي أقرّه برلمان طبرق (شرق البلاد) قبل مدة، وبموجب كتاب وجّهه قبل نحو عام وكيل وزير العدل في حكومة طبرق، يطلب إخلاء السبيل. إلا أنّ برلمان طبرق بدا أمس كمن «يغسل يديه»، ولا يريد تحمّل المسؤولية. لجنة الدفاع والأمن القومي في ذلك البرلمان توجهت إلى «الجهات المسؤولة عن سجناء رموز النظام السابق»، بالقول «لا يحق لكم إطلاق سراح أي منهم، إلا بعد صدور أحكام واضحة بحقهم، أو تبرئتهم من التهم المنسوبة إليهم». من أخرجه إذن؟ لا أحد يعرف، فهو فصلٌ جديدٌ من «الفوضى الليبية».
ناشط سياسي ليبي تحدثت إليه «الأخبار»، يذهب إلى أبعد من ذلك. يقول في سياق الحديث: «إنّ الغريب أنّ سيف لم يظهر في صورة حتى الآن (أي مساء أمس)... ما يجعل البعض يردد أنه ميّت»، نافياً بذلك صحة صورة جرى تداولها في الساعات الماضية.
مصدرٌ دبلوماسي عربي على صلة وثيقة بالملف الليبي يحصر أهمية الحدث الكبير بالقول: «إنّ ما يؤكده (هذا الخبر) أنّ سيف الإسلام بات طليقاً، وأنه غادر الزنتان... لا شيء غير ذلك»، مضيفاً: «في الأساس، نحن نسمع منذ عام تقريباً أنّ ظروف اعتقاله لدى ذلك الفصيل في الزنتان لم تكن قاسية، أو بالأحرى غير خشنة، بمعنى أنه يُزار، وتتوافر له أدوات راحة، وكان يتابع السياسة الليببة». ويُعيد الدبلوماسي العربي التذكير بأنه «منذ أقل من عام، ونحن نقرأ أخباراً بين حين وآخر تتحدث عن إخلاء سبيل سيف الإسلام». وهذا صحيح طبعاً.
تلك الأخبار بدأت تظهر في الصيف الماضي، مباشرة بعد الإعلان عن «كتاب وكيل وزير العدل». بعد أيام، مجلة أسبوعية «تصدر في الولايات المتحدة» وتهتم بالشأن الليبي، تُدعى «وطن»، نشرت خبراً يقول: «إنّ اجتماعاً عُقد بين مدير مكتب رئيس الوزراء السابق نور الدين بوشيحة، وآمر كتيبة أبو بكر الصديق، العجمي العتيري، في ٢٢ أيار (2016)، بهدف البحث في إطلاق سراح سيف الإسلام»، وتُعرِّف عن بوشيحة بأنه «يُعتبر رجل الإمارات ومستشار محمد بن زايد في الشأن الليبي، ويعمل مباشرة مع مستشاره القائد الفتحاوي المفصول والهارب محمد دحلان». وأرفقت بالخبر صورة للرجلين «تؤكد اللقاء». وأشارت المجلة (التي تبدو أنها قريبة من قطر) إلى أنّ «الإمارات عرضت تقديم ملايين الدولارات بما يشبه الرشوة... وهي تحاول الاستعانة بسيف الإسلام».
في حينه، سُئل مقرّبون من دحلان، فأجابوا بأنّ الأخير «يُعدُّ رجل الإمارات، وهو موجود في الملفات التي يُطلب منه إماراتياً التدخل فيها». لكن هؤلاء رفضوا التأكيد «إن كان هناك شيء ما يُعدّ بخصوص سيف الإسلام».
المتابعون للشأن الليبي حاولوا استكمال تقصّي حقيقة «التدخل الإماراتي، ودور دحلان»، إلا أنّ المفارقة أنّه مباشرة عقب حصول محاولة الانقلاب في تركيا (منتصف تموز)، «مات الموضوع». البعض فسّر الأمر، مازحاً: «الإمارات مشغولة الآن بانكشاف مساندتها لمحاولة الانقلاب».
لا غرابة في ترابط عنصرَي تلك «المزحة»؛ فالإمارات ومصر من جهة، وتركيا وقطر من جهة أخرى، تتصارعان في ليبيا. الطرف الأول يدعم خليفة حفتر ومن معه، فيما ينتقل الطرف الثاني بسلاسة من دعم مباشر للمحسوبين على «الإخوان المسلمين»، إلى عرقلة مشروع حفتر وداعميه، والاستثمار تارة في «حكومة الوفاق» المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، وتارة في نفوذ بقية «الحلفاء» أو القريبين، أهمهم القوة المحسوبة على مدينة مصراتة.

خرج نجل معمر القذافي، سيف الإسلام، من سجنه في الزنتان قبل 3 أيام

«كل قضية إخلاء سبيل سيف الإسلام غريبة»، يقول الباحث الإيطالي المتابع عن قرب للشأن الليبي ماتيا توالدو، ويضيف: «من المؤكّد أنّ بإمكان سيف الإسلام أن يلعب دوراً سياسياً في حال حدوث مصالحة وطنيّة كبيرة بين القذافيين القدامى والثوار». لكن، في الأصل، إنّ فرضية بقائه في ليبيا لا تُجمع عليها المصادر الدبلوماسية ذات الصة بالملف الليبي.
«الكثير من أتباع النظام السابق موجودون في جنوب ليبيا، فيما أتباع حفتر في الشرق... لكن لا أظن أن سيف بإمكانه البقاء في ليبيا، أو حتى في الجنوب حالياً، فأنا لا أتصور أن تعود له تلك الحاضنة الشعبية، وأن يلتف الناس حوله من جديد»، يقول الناشط السياسي الليبي. خليفة حفتر نفسه، نُقل عنه قبل أشهر أنّ «سيف الإسلام محروق سياسياً». وهذا كلام إذا صح، فهو يعني أنّ «القذافيين» يبدو أنه لم يعد لهم مكان في المشهد السياسي، إلا إذا كان في جعبة سيف الإسلام ما يفاجئ به، أو في جعبة الطرف الإقليمي الذي أسهم في إخراجه (قرار كهذا لا يمكن أن يكون ليبياً بحتاً).
هل الإمارات ومصر هما الطرفان الإقليميان الداعمان لإخلاء سبيله في ضوء صراعهما المتواصل إقليمياً، وفي ليبيا تحديداً، ضد قطر وتركيا؟
مصدرٌ دبلوماسي مصري رفيع يضحك حين يُسألُ. يكتفي بالقول: «كثرٌ من القذافيين قريبون من الإمارات منذ مدة، لكن صفقة كهذه قد تضرُّ بصورة أبو ظبي عربياً ودولياً... أما مصر، فطبعاً لا تريد أن تؤخذ عليها صفقة تُعيد الوجوه القديمة إلى الساحة الليبية (رغم دعمها لحفتر، الضابط الرفيع السابق في جيش القذافي)». دبلوماسي عربي آخر يرفض «استباق الأمور». لكنه يقول: «ليس سراً أنّ الكتيبة التي كانت تحتجز سيف الإسلام تموّلها الإمارات». إذاً، الحديث عن الإمارات حاضر كيفما قلّبنا «صفقة سيف الإسلام».
وإنّ «المعادلة الليبية معقّدة، وإنّ تداخل وتعارض الاستراتيجيات الدولية والإقليمية فيها أمرٌ معلوم»، يجيب عضو مجلس شورى «حركة النهضة» التونسية عبد الحميد الجلاصي، الذي يضيف أنّ «المستجدات في المنطقة الخليجية لها علاقة بكل الملفات في المنطقة (ليبيا، سوريا، اليمن، فلسطين، مصر)، وستكون لها بالتأكيد تأثيرات على كل الملفات».
«صفقة سيف الإسلام» مرتبطة بتلك المستجدات؟ «ما يقع هو محاولة تحييد التأثير القطري وتحقيق تقدم في بقية المحاور أثناء ذلك، وإنّ ما يحدث في ليبيا هذه الأيام يندرج في هذا الإطار»، يختم نائب رئيس «النهضة» سابقاً.
استعراض بسيط، جعل كل المؤشرات تقود إلى الإمارات، وإلى معادلات الصراع الخليجي ــ الخليجي الذي خرج إلى العلن قبل أيام. ليبيا ــ الدولة الغنية ــ ليست إلا ساحة صراع في ما بينهم أيضاً، وهي الساحة الأولى ربما. لذا، لعله، كان الأجدى استذكار معمر القذافي، من باب الاستيحاء... ليقال لأباطرة الصراع الخليجي: «قد تندمون يوم لا ينفع الندم»!