باريس | كيف يمكن لراهب يتبنى قيم ومبادئ البوذية، ديانة التسامح والمحبة بامتياز، أن يكون في الوقت ذاته قاتلاً عنصرياً وداعية إبادة يسلط حقده الأعمى على الإسلام والمسلمين، ليتفوّق في سلمّ «الإسلاموفوبيا» على دونالد ترامب ومارين لوبن مجتمعين؟
تلك هي الإشكالية التي يتصدى لها السينمائي السويسري باربيت شرودر (1941)، في شريطه التوثيقي الجديد «W المبجّل» الذي تبدأ عروضه العالمية هذا الأسبوع. بهذا العمل، يختتم صاحب «عذراء القتلة» (2000) «ثلاثية الشر» التي كان قد بدأها عام 1974 برائعته «جنرال عيدي أمين داده: بورتريه ذاتي»، ثم أتبعها عام 2007 بفيلمه المثير للجدل، المقتبس عن سيرة المحامي الراحل جاك فيرجيس «محامي الرعب».
كان باربيت شرودر قد اعتنق البوذية وهو في الثامنة عشر، قبل أن يبتعد عنها لينخرط في موجة الهيبيز الستينية، التي خصّص لها أول فيلمين روائيين من إخراجه، وهما (More (1969 و«الوادي» (1972). وإذا به يلتفت مجدداً نحو البوذية، وهو في الخامسة والسبعين، تحت وقع أزمة نفسية حادة يقول إنه تعرّض لها بعدما قام أحد جيرانه بتدمير غابة صغيرة من الأشجار بمحاذاة بيته في إيبيزا. تجربة قاسية استعادها في شريط توثيقي قصير بعنوان «أين صرت يا باربيت شرودر؟» عُرض ضمن التظاهرة التكريمية التي نظمها أخيراً «مركز جورج بومبيدو» في باريس، احتفاء بمجمل أعماله.

أسهم في تفجير «ثورة الزعفران» التي هزّت أركان النظام العسكري في بورما عام 2007

لم يكن صاحب «قُبلة الموت» (1995) ليتصور أن هذه العودة المتأخرة إلى أحضان البوذية ستقوده إلى عمله توثيقي شاق سيستكمل به «ثلاثية الشر». كان قد حاول أن يختم هذه الثلاثية بفيلم عن بول بوت، زعيم «الخمير الحُمر» في كمبوديا، ثم عن خوسيه لوبيز ريغا، قائد «ألوية الموت» الأرجنتينية في عهد الجنرال خوان بيرون. لكنّ المشروعين تعثرا. وبينما كان بالمصدفة يفتش، على الانترنت، عن كتابات بوذية قديمة، اكتشف تقريراً للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة يتحدث عن أعمال إبادة يتعرض لها «الروهينغا»، وهم أقلية مسلمة تقيم في غرب بورما. وصُعق بأنّ أعمال القتل التي يتعرض لها هؤلاء تتم بإشراف وتحريض راهب بوذي متطرف يدعى آشين ويراثو، ويشتهر بلقب «W المبجّل».
أدرك شرودر أنه عثر على ضالته، وقرر استكمال «ثلاثية الشر» بفيلم يروي سيرة هذا الـ «W»، الذي لا يقل وحشية عن عيدي أمين أو بول بوت، لكنه يحمل في الوقت ذاته تلك الزئبقية التي صنعت فرادة فيلمه عن جاك فيرجيس. كيف لا وW يجمع، في آن معاً، بين الجبة البرتقالية للراهب البوذي المتقشف، حليق الرأس وخفيض الصوت، الذي ينادي بالمحبة والتآخي والزهد، وبين القناع الدموي لداعية العنف الذي ينادي بإبادة الآخر، بحجة «الدفاع عن نقاء الدين والعرق»؟
لم يكن سهلاً إنجاز هذا العمل، من جهة لأن سلطات بورما رفضت منح شرودر تصريحاً رسمياً بالتصوير، مما اضطره لدخول البلاد خلسة بتأشيرة سياحية. من جهة أخرى، كان صعباً على شرودر أن يلتزم الحياد، كما فعل في الفيلمين الأولين من هذه الثلاثية، وأن يترك W يروي سيرته الذاتية، من دون التعليق أو الرد عليه.
لكن صاحب «ثقل العار» (1996) لم يلبث أن اكتشف أنّ الأيديولوجيا العنصرية للراهب البوذي القاتل لا تحتاج إلى أي رد أو تعليق، سوى مرافقة أقواله وخطبه بصور أرشيفية تعكس بشاعة الجرائم التي تُرتكب تحت إشرافه أو بتحريض منه.
منذ اللقطة الأولى، يكشف W عن الوجه البشع لخطابه العنصري، قائلاً: «حين كنت طالباً، أنجزت بحثاً علمياً عن صنف من الأسماك يعيش في غرب إفريقيا يتميّز عن باقي الأسماك بأنه يتناسل بكثرة، وينمو بسرعة، ويتسم بالوحشية الشديدة، فهو الحيوان الوحيد على وجه الأرض الذي يفترس بني جلدته». وبعد أن يتوقف للحظات، متظاهراً بالتأمل، يضيف: «لاحقاً، اكتشفتُ بأن هنالك فصيلة أخرى تمتلك هي الأخرى هذه الصفات: إنهم المسلمون»!
على مدى ساعة وأربعين دقيقة، رافقت كاميرا باربيت شرودر الراهب المتطرف، بصمت، مكتفية بالاستماع إليه وهو يروي سيرته أو يلقي خطبه الملتهبة. مما منح الفيلم طابعاً تراجيدياً مؤثراً أسهم في تسليط الضوء، من دون الحاجة إلى أيّ تعليق، على المفارقات الفاقعة التي تطبع خطاب وشخصية هذا الداعية، الذي قرر فجأة، وهو في سن الـ 17، أن يحلق شعر رأسه ويقصد دير «مازويين»، غير بعيد عن مسقط رأسه في ولاية «ماندلاي»، ليصبح راهباً بوذياً.
ويرصد شرودر كيف تطور مسار W، وفقاً لمقولة بوذا الشهيرة: «مثلما يمتلئ إبريق الماء الفارغ بقطرات المطر، فإن البريء الذي يمتص قطرة بعد قطرة، ينتهي به الأمر إلى الامتلاء شراً». بعد خمسة أعوام على ارتدائه جبة الرهبنة البوذية، اكتشف W بالمصادفة كتاباً تراثياً قديماً، مجهول المؤلف، بعنوان «الخوف من اختفاء العرق (البورمي)». ومنه اقتبس أفكاره المغالية التي تطالب بتطهير بورما من «الدخلاء» المسلمين، الذين يطلق عليهم تسمية «كالار» العنصرية.
لحماية نقاء العرق البورمي، أطلق W حملة تنادي بمقاطعة المتاجر التي يمتلكها مسلمون، مجاهراً بأن الهدف هو «جعل الكالار في وضعية لا يجدون فيها مصدر رزق ولا مكاناً آمناً يحتمون به، حتى يضطروا لمغادرة البلاد». لكن تلك الحملة التي اتخذت في البداية طابعاً سلمياً، لم تلبث أن أفضت إلى مواجهات دامية تسببت في مقتل 11 مسلماً في تشرين الأول (أكتوبر) 2003، ما أدى الى اعتقال W والحكم عليه بالسجن 25 سنة.
لكن السجن لم يزد خطابه إلا راديكالية وتطرفاً. من المعتقل، أسهم في تفجير «ثورة الزعفران»، التي هزت أركان النظام العسكري في بورما، عام 2007. وبعد تنحي الطغمة، عام 2012، أُطلق سراحه ضمن العفو العام الذي صدر بحق «مساجين الرأي»، إثر وصول حزب صاحبة نوبل للسلام، آنغ سان سو كي، إلى الحكم.
استعاد W حريته، فأسّس جمعية «ما – با – تا» (جمعية الدفاع عن نقاء العرق والدين)، سيئة الصيت، التي ارتكبت خلال الأعوام الخمسة الماضية مجازر وأعمال إبادة ذهب ضحيتها آلاف المسلمين الروهينغا. هذه الجمعية لم تعد تكتفي بالمطالبة بمقاطعة الأقلية المسلمة (أقل من عشرة في المئة من سكان بورما)، بل صارت تنادي بـ «إبادتها بعدما تبين أنه من المستحيل ترحيلها من البلاد».
وفِي ظلّ صمت مريب من قبل حكومة «الليدي»، صاحبة نوبل آنغ سان سو كي، ما زال W يجوب أنحاء بورما، محرّضاً ضد المسلمين. كاميرا باربيت شرودر رافقته في تجمع أقامه أمام الآلاف من أتباعه، وخاطب فيه الجموع المتحفّزة، سائلاً: «ما هو الأفضل برأيكم، الزواج بمسلم أم بشخص مُشَرَّد؟» فأجابت الجموع: «المشرد، طبعاً»! وإذا بـ W يعود للمزايدة: «ما هو الأفضل برأيكم، الزواج بمسلم أم بكلب؟» فهتفت الجموع بصوت واحد: «الكلب»! وأطرى W على هذا الخيار، قائلاً: «نعم، فالكلب لن يطلب منكم أبداً تغيير ديانتكم»!




مسار سينمائي مزدوج


بدأ باربيت شرودر (الصورة) مشواره السينمائي كمساعد لجان لوك غودار في «حمَلة البنادق» (1963). ورافق، كناقد سينمائي ثم كمخرج ومنتج، عدداً من أبرز أقطاب «الموجة الجديدة» أمثال إيريك رومر، وكلود شابرول، وجان روش، وجان - دانيال بوليه. حافظ على الدوام بقدم في السينما الروائية وأُخرى في التوثيق. وأبدع في كلا الصنفين روائع مبهرة، من باكورته الروائية More إلى تحفته التوثيقية «كوكو، الغوريلا الناطقة» (1978). ظلّ وفياً لهذا النفس المزدوج، الروائي والتوثيقي، حتى بعدما انفتحت أمامه أبواب هوليوود. اقتبس فيلمه الروائي الأميركي الأول Barfly (بطولة النجم ميكي رورك – 1987) من سيرة الشاعر النيويوركي المشاكس تشارلز بوكوفسكي. لكنه أردفه، خلال العام ذاته بشريط توثيقي مبهر بعنوان «تسجيلات تشارلز بوكوفسكي».
توالت بعد ذلك نجاحاته الروائية، من «لغز فان بولو» ( تم ترشيحه لأوكسار أفضل إخراج - 1990) و«امرأة بيضاء عازبة» ( بطولة بريجيت فوندا - 1992)، وصولاً الى «حسابات قاتلة» (2002) و«إنجو، وحش الظلام» (2008) من دون أن ننسى رائعته البيوغرافية «أمنيزيا» (2015). لكن كل ذلك لم يشغله عن استكمال «ثلاثية الشر» التوثيقية، التي استغرقت منه أكثر من أربعين سنة.