بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على صدور المناهج، وما ينيف عن ربع قرن على وثيقة الوفاق الوطني، يتبيّن أن قضايا التربية في لبنان لا تزال براكين خافتة: فبقيت ساخنة طوال الفترة الزمنية الماضية، أو هي خارج النظر بفعل تأجيل معالجتها إلى أمدٍ لاحق. من هذه القضايا، سأتناول التربية على المواطنة بوصفها المدني لمجتمع ديمقراطي في مقابل «المواطنة الحاضنة للتنوع الديني» وفق الصيغة التي تروّج لها مؤسسة «أديان»، وأَسَرَتْ من خلالها كلاً من وزارة التربية والمركز التربوي.
يفاجئني، في هذا الصدد، ما أقرأه مؤخرًا من ردود رسمية على صفحة المركز التربوي: «نحن وطن يحتضن مواطنين ذوي تنوّع ديني وهويّة مركبّة. وقد حاول البعض إلغاءنا، وحاول آخرون صهرنا، وهناك من أراد تقسيمنا، كما اقترح آخرون تهجيرنا!...».
هنا تزول الحدود بشكل ظاهر بين المقاربة التربوية والمنطلقات السياسية. حيث أن المقتطف أعلاه يصلح ليكون خطاباً في السياسة أكثر مما يصلح لمقاربة تربوية. ثم إن ما يتضمّنه رد المركز بخصوص مسألة مقاربة إدارة التنوع، لا سيما من خلال رفض «الإنصهار» (باعتباره أمرًا سلبيًّا)، يخالف وثيقة الوفاق الوطني التي تنصّ حرفيًّا على «إعداد المناهج وتطويرها بما يعزّز الإنتماء والإنصهار الوطنيين» (وثيقة الوفاق الوطني، البند هـ، إصلاحات).
لم يسبق أن استطاعت مؤسسة ذات أجندة خاصة بها كمؤسسة «أديان» أن تفرض على وزارة التربية والمركز التربوي تبنّي مفهوم ملتبس ومحطّ جدل كمفهوم «المواطنة الحاضنة للتنوع الديني».
هذا المفهوم يبدو بظاهره لطيفاً، نظيفاً، خفيفاً، مطواعاً. فهو يدعو إلى «قبول الآخر»، ولكنه يحاكي العقلية اللبنانية المتوجّسة؛ يتوخّى «تبنّي جسور للتلاقي (ولكن) بين متنوّعين متميّزين».
هذا المفهوم يقوم إذًا على الإختلاف، التنوّع والتميّز على قاعدة دينية بالأساس، ونزعة منغلقة على ذاتها. وهو نسخة مجترّة ومسطّحة عن المواطنة الفارقية، وكان أوّل من تحدّث فيها الأب سليم عبو اليسوعي في محاولة منه للتوفيق بين المساواة في الحقوق الممنوحة للمواطنين الأفراد في المقاربة المدنية للمواطنة وحقوق الجماعات الطائفية التي ينتمون إليها في المجتمعات المتعدّدة دينيًّا.
إذًا، يقوم هذا المفهوم على إيثار الشعور بالخصوصيّة المفرطة تجاه الآخر، أي الغيرية، لا سيما على قاعدة الإنتماءات الدينية والثقافية للأفراد. في حين يصطف العديد من المفكرين الطليعيين في لبنان على نقيض هذا التوجه، فيقول مثلاً جورج قرم في معرض توصيفه للغيرية: «أقول لنفسي إنّي بسيط العقل، متمتّع بالطوبى التي جعلها الإنجيل لطيّبي القلوب أمثالي، ممّا يدفعني إلى الإعتقاد بالطبيعة البشرية الواحدة. أتساءل: كيف ما زلتُ أرفض أن أعترف بالغيريّة؟ أهي براءة الأطفال، أم المسيحية الحقّة، أم انّها نتيجة 45 عاماً من التأمّلات حول التعدّدية الدينية والإثنية والثقافية، التي حفّزها هول المجازر بين الطوائف في لبنان منذ العام 1840، ولكن بنوع خاص، تلك التي عشتُها عاجزًا وحانقًا، بين العامين 1975 و1990؟». والأب جورج مسّوح ينتقد أيضًا هذا التصنيف والتمييز.
طبعًا، على أرض الواقع، يؤدي مفهوم المواطنة الحاضنة للتنوع الديني إلى ترسيخ تصنيف المجموعات الدينية بين مسيحيين ومسلمين، كي يصبح كلّ واحد بالنسبة لغيره من الدين المختلف هو «الآخر»، وفصلهم مجموعات منعزلة تستدعي بناء أواصر اللقاء ومدّ الجسور بينهم، عوض أن يكونوا جميعهم سواسية، تجمعهم المواطنة.
إزاء ذلك، لماذا تنجرّ وزارة التربية والمركز التربوي إلى تبنّي مفهوم مؤسسة «أديان» هذا؟ وإذا كان التعاون مع هذه المؤسسة هو ضمن التعاون مع المجتمع المدني والجمعيات المتخصصة والناشطة، ومع المؤسسات التربوية الخاصة والرسمية، كما يقول المركز التربوي، فهل تختزل «أديان» كل هذه الجمعيات، لتلعب هذا الدور مثار الجدل في التربية الوطنية والفلسفة وخدمة المجتمع وقد تستهدف أيضًا التاريخ والتعليم الديني؟
على خلاف توصيات لجنة المركز التربوي عام 1997 بخصوص تبنّي منهج موحد للثقافة الدينية، وفي محاولة للإلتفاف على أعمال هذه اللجنة، تقوم مؤسسة «أديان» بإطلاق الدليل التربوي: دور المسيحيّة والاسلام في تعزيز المواطنة والعيش معاً، في كتابين منفصلين، في محاولة لمقاربة مسألة التعليم الديني من ذات زاوية التنوع الذي تعمل عليه، في تكريس الشأن الديني ودوره في التصنيف الإجتماعي والتمييز بين المواطنين الأفراد، ويؤازرها منذ فترة المركز التربوي.
القضايا التربوية الساخنة تطال أيضًا غير نقطة، لكن ما اكتفينا باستعراضه بعجالة يدلّل على غياب الرؤية في مسألة التطوير التربوي، أو غلبة التوجه السياسي بحسب مقتضيات المرحلة (ما يشرح حدوث أو عدم حدوث تنافر مع سلطة وزير التربية بحسب وجوه المرحلة) وانفلاش الهواجس المفتعلة في مقاربة الشأن الديني والقضايا ذات الصلة به لا سيما في التربية الوطنية والتاريخ والتعليم الديني.
أستاذ في كليّة التربية – الجامعة اللبنانيّة