في روايتها «ماء وملح» (دار الآداب) تعرض الكاتبة الجزائرية سارة النمس قصتها عبر أدب الرسائل، التي يتبادلها أسير فلسطيني وحبيبة تنتظره خارج القضبان وتعاند إرادة أهلها والمجتمع المحيط بها بأصالة مدّعاة ومُحيّرة! يبدو موضوع الرواية غنياً، ويمكن أن يكون حاملاً لإشكاليات عدة، لا سيما بعد معرفتنا أنّ فارس يقيم في الضفة الغربية وسلمى في غزة. لكن الرسائل اقتصرت على حالات شعورية، مما أفقد الرواية العمق المرجو منها، وجعلها رسائل عن حب مجهول الطبيعة. تنبري الكاتبة للدفاع عنه بعبارات الشوق والتودد دون قدرة على الإقناع بكماله، إضافة إلى إشاراتها المحايدة عن قضايا وطنيةِ تعتبر أساساً في تشكيل الوعي الفلسطيني. بالتالي، يخرج الشكل الذي كُتبت فيه الرواية فاضحاً لثغرات النص. يجد القارئ نفسه باحثاً عن فن أصيل ضمن سرد طويل لا يقول الكثير.
تبدأ حكاية فارس وسلمى عبر تعليق على الفايسبوك. لقد وجدت فيه شخصاً عادياً لكنه سحرها. رغم ذلك، تزوجا افتراضياً من المحادثة الأولى وأرادت سلمى العصمة في يدها قبل أن يطلقها فارس. لا تستمر الرواية وفق هذه البداية الخيالية، إنّما ستسرد الكاتبة عبر عشرات الرسائل قصتها مع حبيبها الأسير.

تتداخل عواطف اللوعة والشوق والحرمان والفرح الذي يملك أسباباً، ليست أسباباً لسعادة المحبين، بالمعنى الناضج للكلمة. لكنها سعادة انفعالية ما تلبث أن تزول بين كلمة وأخرى. إنّ القصور في نضج الأفكار جعل الرواية هيكلاً مشحوناً بالعواطف فقط. يترافق تطور حكاية سلمى على صعيد أسرتها ودراستها، مع ثبات مرير ومُخِل في قصتها مع فارس. تعود لدراسة الأدب الإنكليزي، بعد استشهاد أخيها زيد. لقد كان استشهادهُ دافعاً لوالدها للقبول بعودتها إلى الجامعة، وكانت موافقته، بشكل من الأشكال، ليس على دراستها للأدب، وإنّما لتكون ذكر الأسرة الجديد بفقدان الشاب الوحيد بينهم. تمضي سنوات دراستها الأربع حافلة بالأحداث التي لا تصنع شخصية روائية جذابة، إنما تبني علاقتها مع القارئ على مظلوميّة من النوع المحبط. مظلوميّة الضحايا الذين يكتفون في كونهم ضحايا، وفي ذلك تبرير وجودهم. تتعرض سلمى لتحرش من أستاذها وتنشأ علاقة مع صديقها مبنية على سوء فهم. يعتقد أنّه يحبها وهي تراه صديقاً وتكتب في رسائلها إلى فارس كل هذا، كما لو أنّها تريد إهانته: أن توصل له مقدار عجزه وبعده. يزوجها والدها دون علمها، تجرب الانتحار لتنجو في اللحظات الأخيرة، تخرب علاقتها مع والدها، يوافق أخيراً على تزويج أختها الأصغر منها، وفارس قابع في زنزانتهِ.

قصور في نضج الأفكار جعل الرواية هيكلاً مشحوناً بالعواطف فقط
نعرف أنّه كان ميكانيكي سيارات وأنّ محاكمته أجِّلت مرات عدة. يضرب مع رفاقه عن الطعام احتجاجاً على سوء السجون الإسرائيلية. ومن إضرابهم يجيء عنوان الرواية. تتواصل سلمى مع عائلتهِ، ويكون مجد، شقيق فارس، بمثابة راوٍ يضيف ما يفوت سلمى إخبارنا إياه عن ماضي حبيبها. يبقى فارس مثله مثل كرم مجهولاً بالنسبة لنا، كون رسائله إلى سلمى مصاغة بإرادتها بالقدر الذي يبدو حجة سلمى لكتابة حياتها العادية. لقد احتاجت استثناءً لتروي سيرتها، لكنها لم تغن ذلك الاستثناء إنّما تركته بعيداً عن جوهر النص دون أن يتفاعل معهُ!
تشير الكاتبة إلى واقع الانقسام الفلسطيني. توحي بالألم والعار بأن يقتل الفلسطينيون بعضهم بعضاً جراء اختلاف في الرأي. تسند إلى بطلها فارس حياة رجل يشغل الاحتلال الإسرائيلي الذي يعتقل كل من يملك اسمه. كرم، الشاب الذي أسس تنظيماً يدعو إلى الكفاح المسلح ويرفض اقتران المقاومة السياسية بالدين، يجمع الأطياف الفلسطينية كافة، ويدعو إلى الجهاد في سبيل الوطن، لا في سبيل الله. وزع المنشورات وظهر اسمه على العديد من الأعمال التي حدثت ضد الإسرائيليين. لكنه يبقى شخصية غامضة، يُعتقل الناس بسبب شبهة بهِ. حتى فارس، الميكانيكي الهادئ الذي يعيش حياة هادئة ومكشوفة قد اعتقل أساساً لأنّ توأمه المتوفى رضيعاً حمل الاسم ذاتهُ كرم، الذي أرهق الكيان ومستوطنيه. يبرز في النص بوصفه مشكلة للفلسطينيين أيضاً، بعدما جعلته قوات الاحتلال ذريعة للاقتصاص منهم. أي، إنّنا لا نعرف، هل كرم شخص إيجابي في حياة الفلسطينيين أم أن الكاتبة جاهلة بموضوع روايتها، تستعرض مناطق فلسطينية كما لو أنّها تطل عليها من نافذة طائرة!
لا توارب الراوية قصدها من الكتابة إلى فارس، إذ تذكر «أنا لا أكتب إليك إلا لأتعافى». وفي إحدى الرسائل التقريرية، تكتب «انشغلت بمخاطبة نفسي عن مخاطبتك» قبل أن تنهي رسائلها إليه بالأشواق. لكن الاعتراف هذا، لا يفعل سوى انتزاع صفة أدب الرسائل عن الرواية. هي رسائل بلا تصعيد، بلا تفاعل، أشبه بمذكرات لا تحتاج إلى طرف آخر. كلمات متراكمة في نص يفتقد للحيوية، لم تتوقف الكاتبة عن زراعته أفكاراً، لا تنم سوى عن جهل في الموضوع وقصور في الشكل. ثمة مبررات كثيرة ليسأل القارئ بعد أن يطوي الصفحات الطويلة. أين الأدب من كلّ ما قرأته؟!