أكد العديد من الخبراء على تلوّث معظم موارد المياه في لبنان، ولكن تلوّث نهر الليطاني بشكل خاص يشكّل مصدر قلق كبير، بكونه المساهم الأكبر في تلوث الغذاء أيضاً. فمن المعروف عموماً، وكما تشير دراسة يعود تاريخها إلى عام 1992 (الجردي)، أن نهر الليطاني يعيش كارثة بيئية حقيقية وأن معظم الآبار والمياه السطحية والجداول والأنهار العديدة ملوثة بالبكتيريا، فضلاً عن تلوثها بالنفايات الصناعية.
فقد أفادت التقارير بأن تلك الأنهر تتعرض لتلوث ميكروبي وكيمائي من النفايات السائلة الصناعية والمنزلية والصرف الصحي الخام، أي من شبكات الصرف الصحي السكنية ومن مزارع الألبان ومختلف المصانع، فضلاً عن المواد الكيميائية والذبائح الحيوانية. ونتيجة لذلك، يمكن أن تسبب مياه الصرف الصناعي تلوّث مياه الآبار والخضراوات الصالحة للأكل. وعلى هذا النحو، فإن استهلاك الخضراوات المروية بنهر الليطاني ومياه الأنهار الأخرى يُفترض أن تشكل مصدر قلق كبير على الصحة العامة. وقد تبيّن أن الممارسة الحالية لتصريف مياه المجاري غير المعالجة في النهر تسبب بالفعل تلوثاً واسع النطاق وتشكل حالة خطرة خلال فترات الجفاف، يمكن أن تستمر لفترة أطول من سنة، وربما لعدة سنوات متتالية، خصوصاً أنها تقف وتتراكم وتترسب خلف سد القرعون. ووفقاً للإحصاءات - التي ليست كثيرة في لبنان - ثمة ما يقرب من 146 مزرعة - 72 منها في البقاع الأوسط و68 في البقاع الغربي و5 في بعلبك – وكلّها تستخدم المياه الملوثة من الليطاني لري المحاصيل مثل القمح والبطاطا، وغيرها من الخضروات الأخرى والفواكه.


التلوّث الصناعي

من الجدير بالذكر أن أي شكل من أشكال التلوث الناشئة عن الممارسات الصناعية هي التي تعرف باسم التلوث الصناعي، وهذا يعود غالباً في بلد كلبنان إلى عدم وجود سياسات بيئية فعّالة بل حتى عدم وجود مثل هذه السياسات إطلاقاً والضعف في تنفيذ القوانين، إن لم نقل التردي الكامل في تنفيذها، بسبب المحسوبيات المستشرية، ما قد يسمح للعديد من الصناعات بتجاوز القوانين وعدم التخلص من النفايات بشكل سليم، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى تلوث المياه والتربة بالنفايات غير المعالجة. ومن المسلّم به تماماً أن التعرّض الطويل الأجل للمياه الملوثة يسبّب مشاكل صحية مزمنة، ما يجعل مسألة التلوث الصناعي حالة حرجة وذات مخاطر عالية.


التداعيات على الصحة

والأهم من ذلك هو أن تداعيات هذه الكارثة البيئية على الصحة في لبنان لم يتم التحقق منها ودراسة مخاطرها بشكل كاف. فوفقاً لإحصائيات وزارة الصحة العامة وغيرها من المؤسسات ذات الصلة في السنوات الماضية، فإن الأمراض السائدة في لبنان الناتجة عن المياه الملوثة هي التهاب الكبد والتيفوئيد والديسنتيتري. ليس في الأمر جديد. في عام 1990، تم رصد تلك الأوبئة وقد وتبيّن ارتباط عدد الحالات في شهر معين بفترات ري محاصيل الخضروات بالمياه الملوثة. في عام 1992، أدى تلوث إمدادات مياه الشرب بمياه الصرف الصحي الخام والمخلفات من مكابس معامل زيت الزيتون إلى تلوث المياه في طرابلس وإصابة 100 بالتيفوئيد.
إن المياه الملوثة بالمجاري والنفايات السائلة الصناعية والمنزلية غير المعالجة تحتوي على كميات مفرطة من المغذيات، بالإضافة إلى تلوثها بالمسببات المرضية والمواد الكيميائية السامة التي تؤثر على النظام الإيكولوجي والصحة العامة، كما لوحظ أن الخضراوات الورقية في محيط الأنهار الملوثة تحتوي على نسب عالية من المعادن الثقيلة.


الري بمياه الصرف

إن استخدام مياه الصرف الصحي للري هو حقيقة شائعة في ثلاث مدن في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية من ضمنها لبنان. ومن المعروف أن الري بمياه الصرف الصحي يساهم بشكل كبير في تركيزات المعادن الثقيلة في التربة. فقد أُثبت أن مياه الصرف الصحي وسوائل النفايات من المصانع أو المصادر الأخرى هي مصادر محتملة لكميات كبيرة من المعادن الثقيلة السامة. كما ومن المؤكد أن استخدام مياه الصرف الصحي والصناعي للري يشكّل مصدراً لتلويث التربة بعناصر معدنية سامة طبعاً كالزنك، النحاس، الرصاص، الكروم، المنغنيز. وأن النحاس، والرصاص هما من مكونات مبيدات الفطريات والآفات.
محلياً، أفادت دراسة أولية للجامعة الأميركية في بيروت أنه خلال موسم الجفاف، تسحب المياه من نهر الليطاني لأغراض الري، وهي في معظمها مياه صرف. وبالتالي فإن التربة قد تتعرض للتلوث بالمعادن الثقيلة الناتجة عن النفايات الصلبة، والصناعية والمنزلية التي تركزت في التربة و/ أو في قناة نهر الليطاني، والناتجة عن الاستخدام المفرط العشوائي للمبيدات والأسمدة. وتبيّن أن الخضروات المروية بمياه النهر الملوثة أظهرت تراكماً متزايداً لتلك المعادن في المحاصيل الزراعية والتي قد تؤثر على الجهاز العصبي المركزي ووظائف القلب والأوعية الدموية والكلى.


خطورة المعادن الثقيلة

إن خطورة المعادن الثقيلة قد تم تأكيدها منذ عدة عقود في البلدان المتقدمة، وتأكد أن الري غير المعالج لمياه الصرف الصحي له دور محوري في زيادة المعادن الثقيلة في التربة والمحاصيل بشكل كبير. ومن المعروف أن المعادن مثل الزنك، النحاس، والسلينيوم هي عناصر أساسية للنمو الطبيعي للنباتات والكائنات الحية... ومع ذلك، فإن تركيزات عالية من هذه العناصر تصبح سامة وتسبّب مشاكل صحية خطيرة، يمكن أن تتطور، كون تلك المعادن ليست قابلة للتحلل بل تتركز وتستمر في التربة. والتراكم المفرط للمعادن الثقيلة الغذائية مثل الكادميوم، الكروم، والرصاص في أعضاء الجسم البشري كالكلى، القلب والأوعية الدموية، ارتبطت مع أمراض مزمنة وحادة مثل أمراض السرطان، والاكتئاب، الفشل الكلوي، وهشاشة العظام، تشوهات الهيكل العظمي، وغيرها. أضف إلى ذلك أن استهلاك المعادن الثقيلة عبر الأغذية الملوثة يمكن أن يستنزف بشكل خطير بعض العناصر الغذائية الأساسية في الجسم ما يسبب انخفاضاً في الدفاعات المناعية، والتأثير على نمو الجنين داخل الرحم، ويؤدي أيضاً إلى الإعاقات المرتبطة بسوء التغذية، وارتفاع معدل انتشار سرطان الجهاز الهضمي العلوي... ما أعطى ذلك دفعاً لزراعة الخضار الورقية في التربة والمياه الخالية من المعادن الثقيلة للحدّ من مستوى السموم في الخضار الورقية ومحاصيل الخضروات.

بقايا المبيدات

الدراسات حول تلوث الليطاني والزراعة منذ بداية التسعينيات!

كما وقد أثيرت على الصعيد العالمي مخاوف بشأن بقايا مبيدات الآفات في المياه وعن المخاطر الصحية الناشئة عن تعرض المزارعين عند خلط وتطبيق مبيدات الآفات أو العمل في الحقول. وقد تسببت هذه الأنشطة في عدد من حالات التسمم العرضي، وحتى الاستخدام الروتيني لمبيدات الآفات يمكن أن يشكّل مخاطر صحية كبيرة للمزارعين في الأجلين القصير والطويل على حد سواء ويمكن أن يؤدي إلى تدهور البيئة. ومن الممكن التعرض لمبيدات الآفات بشكل رئيسي من خلال تناول الطعام ومياه الشرب الملوثة بمبيدات الآفات، في حين أن التعرض الكبير لها قد ينتج أيضاً عند العيش بالقرب من مكان تخزين واستخدام المبيدات. وهذه المواد الكيميائية الخطرة قادرة أيضاً على التراكم في أعضاء الجسم البشري، ما يؤدي إلى التأثير على صحة الإنسان. وقد عزيت زيادة حالات السرطان وأمراض الكلى المزمنة والعقم والاضطرابات العصبية والسلوكية، وضعف الجهاز المناعي، واضطرابات الغدد الصماء إلى التسمم بالمبيدات الحشرية المزمنة.

المبيدات المحظورة متوفرة!

وأظهرت دراسات سابقة في لبنان أنه على الرغم من وجود قائمة بشأن مبيدات الآفات المحظورة رسمياً في لبنان، إلا أن الرقابة الحكومية وإنفاذ القانون لا يزالان ضعيفين. وحتى المنتجات المحظورة متاحة بوسائل غير قانونية وتستخدم من قبل مزارعين غير مدربين. إن المبيدات المحظورة، وخاصة الكلور العضوي، مثل الألدرين وأبوكسيد الهيبتاكلور والدي. دي. تي.، لا تزال قائمة في البيئة المائية لجنوب الليطاني. وعلاوة على ذلك، تشير المعلومات إلى أن العديد من الشركات كانت تحاول إخفاء الاسم الحقيقي للمنتج، ووضع تسميات غير واضحة، وتشجيع العمال الزراعيين على استخدام أكثر، وجعل أيّ من المبيدات متاحة بسهولة للمستخدم النهائي دون وصفة.
نظراً إلى الوضع القائم، لا بدّ من أن تلك المعطيات لم تتغير منذ حينها. ففي 2013 وفي دراسة عن متبقيات مبيدات الآفات في موارد المياه اللبنانية، تم الكشف عن الكلور العضوي والمبيدات العضوية الفوسفاتية في عينات مياه الشرب والمياه الجوفية، كما قد لوحظ ارتفاع مخاطر المبيدات في العديد من المياه السطحية.
وبناء على كل ذلك، هذه الكارثة البيئية إنما هي بالأحرى شبكة معقدة من مشاكل مزمنة تهدّد الصحة العامة، وتدعو إلى تدخل حكومي طارئ لضمان التشريعات السليمة في ما يتعلق بمخاطر الصحة العامة وبتفعيل العمل في متابعة بناء مخططات محطات معالجة مياه الصرف الصحي القائمة، للحدّ من مستويات الملوثات في الأنهر والتربة والمحاصيل الزراعية وما ينتج عنها من مشاكل صحية حاولت في هذه العجالة أن أشير إليها وأنبه إلى مخاطرها الكبيرة، ليس على الجيل الحاضر فقط بل والأجيال المقبلة أيضاً فالحياة استمرار بما فيها من مسرات ومحزنات أحياناً.




الملوثات العضوية الثابتة

تنصّ اتفاقية استكهولم على التحدي والمخاطر التي تمثلها المواد الكيميائية السامة وبالأخص الـ 12 المعروفة علمياً وعالمياً وهي من أسوأ الملوثات العضوية الثابتة. ثمة 9 منها تشكل مبيدات الآفات من الملوثات العضوية الثابتة وهي التالية : ألدرين، ديلدرين، إندرين، كلوردان، هيكساكلوروبنزين، هيباتاكلور، ميريكس، وتوكسافين. وكلها استخدمت كمبيدات حشرية وتشمل هذه الفئة أيضاً دي دي تي. وتستهدف الاتفاقية أيضاً مادتين كيميائيتين صناعيتين هما سداسي كلور البنزين hexachlorobenzene الذي يستخدم كمبيد للآفات ويمكن أن ينتج من تصنيع المبيدات، وثنائي الفينيل متعدد الكلور. وقد عرف عن ثنائي الفينيل بتسببه بتلوث الأنهار والبحيرات في المناطق الصناعية، وقتل أو تسمم الأسماك، كما وتسبب العديد من المشاكل الصحية، بما في ذلك تلوث زيت الأرز في اليابان في عام 1968 وتايوان في عام 1979.








صعوبات المسح

وفقاً لتقرير خاص عن لبنان حول مشروع القضاء على الملوثات العضوية الثابتة وذلك بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، قد واجهت الجهود الرامية لتحديد كميات مخزون مبيدات الآفات من الملوثات العضوية الثابتة العديد من التحديات. كان من الصعب الحصول على البيانات المتعلقة بكمية هذه المواد الكيميائية لأسباب كثيرة، منها إنكار مصانع الكيماويات الزراعية عن إنتاج مثل هذه المواد الكيميائية، أو وجود مخزون منه، عدم وجود تصنيف مناسب للمبيدات من قبل الجمارك اللبنانية، عدم وعي المزارعين بطبيعة المبيدات المستخدمة، عدم وجود سجلات دقيقة وكاملة تفصل استخدام هذه المواد الكيميائية من قبل البلديات. إضافة إلى ذلك، لقد تبين أن العاملين في القطاع العام اللبناني، والعمال الزراعيين على وجه الخصوص، لا يعرفون على ما يبدو مخاطر مبيدات الآفات الحقيقية ويفتقرون إلى التعاليم عن السلامة.