في التاسع من حزيران (يونيو) من كل عام، يحتفل العالم بـ «يوم الأرشيف العالمي» لرفع الوعي تجاه أهمية الأرشيف وحفظ الذاكرة، وتسهيل الوصول إليها أمام العامّة. هذه السنة، يحمل النهار الذي أطلقه «المجلس الدولي للأرشيف والمحفوظات» عام 2007، عنوان «الأرشيف، المواطنة، وحوار الثقافات».
في الحالة اللبنانية قد يكون هذا اليوم ترفاً نوستالجياً، مجرّد نكئ للمحاولات الرسمية البدائية للتوثيق والحفظ، إذا ما استثنينا مساهماتها المقصودة لطمر الماضي. فيما لا تزال «المكتبة الوطنية» تنتظر افتتاحها منذ سنوات، وجدت الذاكرة الجماعية خلاصها على يد المبادرات الخاصة والفردية. هكذا صار الشتات والخصخصة من السمات الأساسية للأرشيفات ـــــ الفنية تحديداً ـــــ في لبنان. أرشيف «استوديو بعلبك»، طار بدوره. أحد أبرز المعالم الثقافية اللبنانية، الذي حمل أصداء أهم التجارب الموسيقية الغنائية العربية واللبنانية (من بينها الأخوان رحباني وفيروز)، عرض للبيع في مزاد علني كبير. اليوم، تقبع أجزاؤه المبعثرة في الأقبية الخاصة لمؤسسات فنية وغاليريهات، ومنها ما يتكتم على امتلاكه لها. مقابل عجز الدولة عن النظر إلى الماضي، شاركت المؤسسات والجامعات اللبنانية الخاصة في «يوم الأرشيف العالمي» عام 2014. فتحت أرشيفاتها ومحفوظاتها الفنية والتأريخية والموسيقية والسياسية والمعمارية لثلاثة أيام أمام الناس: «المركز العربي للعمار»، و«المؤسسة العربية للصورة»، و«مركز النهار للمعلومات»، و«دائرة الأرشيف والمجموعات الخاصة التابعة لمكتبات الجامعة الأميركية في بيروت»، و«مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية»، و«المكتبة الشرقية التابعة لجامعة القديس يوسف»، و«مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، و«مجموعة فؤاد دباس». أما الجهة الرسمية الوحيدة، فكانت «مشروع النهوض بالمكتبة الوطنية» إلى جانب مؤسسات وصحف ومكتبات أخرى. من بين المؤسسات الخاصة، شاركت مكتبة «ريكتو فيرسو» أيضاً، التي تملك أكبر الأرشيفات الفنية التشكيلية اللبنانية.

يرفع الحدث هذه السنة
شعار «الأرشيف، المواطنة،
وحوار الثقافات»

صاحب المكتبة سيزار نمور أحد هؤلاء المسكونين بـ «بالهوية الجمالية الجماعية» على حد تعبيره. رافق المؤرخ الفني اللبناني مسار الفن التشكيلي في لبنان بشغفه الخاص. في «يوم الارشيف العالمي»، يواصل التذكير بأهمية حفظ الأرشيف، هذا «الجسر الجامع بين الماضي والحاضر». يغتنم الفريق الصغير القائم على المكتبة إلى جانب نمور، أيضاً فرصة التذكير بأن محفوظاتها مفتوحة أمام الباحثين والمهتمين بالفنون والطلاب. كحال معظم الأرشيفات الأخرى، تغيب المحفوظات التي توثق للفن اللبناني الذي يكاد يلفظ تماماً من التاريخ اللبناني. لا متحف ولا مناهج دراسية توقظ تلك السنوات الفنية المضيئة. إحدى المحاولات الطموحة الوحيدة لوزارة الثقافة اللبنانية كانت إطلاق متحف افتراضي للفن اللبناني، قبل سنوات، أمام تلكّئها في انتشال مجموعاتها القابعة في المستودعات وعرضها ضمن متحف حقيقي. يملك نمور أرشيفاً واسعاً للفن اللبناني باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية. مكتبته Recto Verso الصغيرة في شارع مونو، تعدّ ثروة مرجعية، باحتوائها ما يقارب 1500 كتاب منذ افتتاحها عام 2009. تطال الكتب والوثائق الورقية بمعظمها حقبات الفن التشكيلي اللبناني، إلى جانب المؤلفات التي تتوزّع على عدد من العناوين هي التصوير الفوتوغرافي، وتصوير الطبيعة، والهندسة المعمارية اللبنانية، والخط العربي، والنحت، وكتالوغات المعارض اللبنانية... لم تكن هذه محاولة نمور الأولى لشقّ أبواب الماضي. الرجل الذي درس إدارة الأعمال، وجد مساحة لشغفه بالفنون التي تعلّمها بشكل فردي منذ خمسينيات القرن الماضي. افتتح مع وضاح فارس عام 1972 غاليري Contact في الحمرا التي استقبلت تجارب تجديدية حتى 1978. في تلك الفترة، كانت التجارب الإختبارية الحديثة تملأ بيروت مثل هلن الخال، وعارف الريس، وشفيق عبود، ولور غريب وأمين الباشا ورفيق شرف. مثل كل التصدّعات التي خلّفتها، أحدثت الحرب شرخاً أسهم في تشتيت هذا الأرشيف الفني الذي شكّل واجهة أساسية لبيروت الخمسينات والستينات، وساهم في صناعة هويتها الفنية. جزء منه يقبع لدى الغاليريهات، وفي المجموعة الدائمة لـ «متحف سرسق»، وآخر داخل رؤوس معاصري تلك الفترة من النقاد والباحثين والفنانين مثل الناقد جو طراب. تحت وطأة شغفه بالفن، بدأ نمور بكتابة المقالات التشكيلية النقدية لـ «النهار» الثقافي. راح يجمع أيضاً ملفات عن الفنانين اللبنانيين مثل ملصقات معارضهم، ومقالات عنهم وغيرها، مستعيراً عمل مؤسسات المحفوظات الرسمية. هناك نقص راح يتبدى له بعد انتهاء سنوات الحرب الطويلة. حاول نمور رأب الفجوة عبر اطلاق «دار الفنون الجميلة» التي صدر عنها حتى اليوم 25 كتاباً فنياً يوثق للفن التشكيلي اللبناني من النحت واللوحات الفنية، معظمها من تلك التي كتبها نمور بنفسه، إلى جانب كتاب يضمّ مقالات نقدية للفنانة اللبنانية هلن الخال ومؤلفات أخرى.
عبر التواصل مع فناني تلك الفترة، ممن بقي منهم حياً، استطاع نمور تحصيل عدد كبير من المعلومات والقطع الفنية النحتية. من هنا جاءت الحاجة الملحة لعرضها أمام الناس. دشّن مساحة ملموسة أخرى لتوثيق الفن النحتي اللبناني من خلال «متحف مقام» (متحف الفن الحديث والمعاصر في لبنان) الذي افتتح عام 2013 في عاليتا (قضاء جبيل). تتوزّع في المجموعة الثابتة للمتحف حوالي 300 عمل فني بين منحوتات وأعمال تجهيزية معاصرة، تروي مسار النحت في لبنان من يوسف الحويك، والإخوة بصبوص وسلوى روضة شقير، وجنان مكي باشو، ومروان صالح وغيرهم. الهم التوثيقي لنمور ولشريكته في المشروع الباحثة الألمانية غابرييللا شاوب، تطلّب نقله إلى الأجيال الجديدة. في موازاة إقامة معارض استعادية ومسابقات فنية للطلاب والفنانين الجدد، يفتح المتحف أبوابه طوال العام أمام طلاب المدارس. يقوم الثنائي بتعليمهم تاريخ الفن اللبناني الذي لن تتاح لهم مطلقاً معرفة شيء عنه لا في مدارسهم، ولا في الأرشيف «الوطني»، إن وجد.