افتتح قبل أيام معرض تكريمي استعادي لرائدة الفن الخزفي الحديث في لبنان دوروثي سلهب كاظمي (1942 – 1990). هكذا، احتضن «مقام» متحف الفن الحديث والمعاصر في عاليتا (جبيل)، قرابة مئة عمل فني اختيرت بدقة من «متحف دوروثي سلهب كاظمي» في رومية، لتمثل مختلف مراحل أعمالها وحياتها والأشكال/ التقنيات المختلفة التي عملت عليها.لكنَّ المعرضَ ترسم إطاره مجموعةٌ من الصور الخاصة للفنانة الرائدة الراحلة. كما يضمّ مجموعة من البوسترز لمعارضها رغم عمرها القصير.
إذاً، الساحة الفنية اللبنانية والعربية على موعد مع واحد من أنبل المعارض الفنية، وأكثرها رهافة وصدقاً. ربما كانت الريشة واللون منطلقاً لتكثيف المشاعر، نعم.
وربما كان النحت في الحجر بحثاً في الخلق أو في الذات، نعم. أما الطين فهو وحده حافظ أسرار الكون، ومؤرخ التاريخ البشري، وموثَّق الحضارات.

بعد النور/اللون، كان الماء، وبعد الماء كان الطين، ومن الماء والطين والنور، كان كل شيء! ثم مع النار صُقِل الكل! أليس هذا ما تقوله كل القصص المقدسة؟ وحتى.. أساطير الكون؟ فماذا صنعت دوروثي سلهب كاظمي؟ ما كانت علاقتها بالطين والماء والنور/ اللون والنار؟ هل نكرمها بالطواف حول أعمالها في المعرض الاستعادي؟ أم أننا عملياً نكرم تاريخنا الخزفي الحديث الذي مهَّدت له هذه الرائدة بمغامرة شخصية وشغف لامحدود؟
هو موعدٌ مع همسات دوروثي سلهب كاظمي في جوف الخزف. سيصغي عشاق الفن لحكايا الطين والنار، ولأسرارٍ تركتها دوروثي على شكل بصماتٍ مدهشةٍ - إلى الأبد - لعيون الناظرين. فالطين هذا لا يموت! ألم يصلنا منذ عشرات آلاف السنين نقش أدبي على ألواح؟ أساطير وتماثيل معبودة؟ أو حتى أوعية وأوانٍ؟ وكذا بصمات من صنعَه، وهمسات حب الفنان في أذن المزهرية الخزفيةٍ مدركاً أنه يخلق سكناً للورد؟ أو دعاؤه في عنق إبريقٍ خزفيٍّ، مدركاً أن الأخير لا بد راوٍ لعطش؟ أو تجويفه المقصود لِوعاء خزفيٍّ لعلّه يسَع أكثر ليطعم جائعاً؟
بهذه الروحية كانت دوروثي تغزل دولابها لتصنع أوانيها. هذا ما يؤكده كل من عرفها. دوروثي سلهب كاظمي لم تبنِ خزفاً يتحدى المساحة في القياسات، بل خزفياتٍ صغيرةً تتسرب مع كل تفصيل فيها إلى أعماق الرّائي، فتأخذ حيّزها من طينته وتحيا. خزفيات متنوعة يكاد أكبرها حجماً (وهو قليل) يصل إلى ثلاثين سنتيمتراً، اعتنت بها الفنانة الراحلة كمن يعتني بكل تفاصيل حديقته الشخصية، برعماً برعماً، ثم زهرة زهرة وورقة ورقة. وهو ما عبرت عنه دوروثي سلهب مرة لأحد مقتني أعمالها المخلصين: «الطين هو مادة حيّة، تعجّ فيه طاقة قوية، يجب أن تحسن معاملته، أن تمدّه وتوسّعه وتكيّفه بمحبة ودراية! أجمل لحظات حياتي هي تلك التي أُخرج فيها القطع من جوف النار لأرى كيف تحوّل ما أرسلته إليها!»
وفن الخزف إرث إنساني طويل. في مقدمة كاتالوغ المعرض، كتب سيزار نمّور مدير «متحف مقام» ومنسق المعرض الاستعادي: «نجد في فن الخزف عنصرين مختلفين يتنازعانه باتجاهين متناقضين. تاريخه المستمر دون انقطاع في بقاع العالم المختلفة منذ أكثر من 35 ألف عام والذي يربط الخزّاف إلى تقاليد وأشكال يصعب عليه التنصل منها. وفي المقابل نجد نزعة الفنان إلى التعبير الشخصي وابتكار أشكال فريدة وتجربة تقنيات جديدة. دخل الخزف خلال العصور في ثقافة الشعوب كما دخل في تقاليدها. ألواح الطين حفظت لنا تدويناً أموراً كثيرة عن حضارات قديمة، والآنية والأباريق والجرار والصحون والتماثيل الصغيرة هي الدلالات عن ثقافات وعادات الإنسان منذ القدم حتى يومنا. وبلاط الحيطان والأرض لبَّت حاجات الإنسان إلى تجميل مكان سكنه وعبادته. جمع فن الخزف التاريخ والثقافة والتقاليد والفن باستمرار خلال العصور، فأصبح الخزّاف كاهناً في معبده يكرر الأساليب والأشكال التقليدية بورع دون تعديل.
في الجهة المقابلة لاستمرار وتيرة العمل التقليدي والانحباس بالذاكرة التاريخية للطين، نرى الفنان عندما يعجن الصلصال بين أصابعه يتحول معه بإحساسه للمادة إلى خالق لشكل جديد معبر ذي شخصية فريدة. يبتعد عن تكرار الشكل الذي وصل إليه، لأن الإبداع مناقض للتكرار والنقل اللذين يتجنبهما ليقينه بوجود إمكانات غير محدودة للخلق، وأن عليه أن يقوم بمغامرة التفتيش».
وفي الجملة الأخيرة هذه تكمن جذور عمل دوروثي سهلب كاظمي. عدا كونها أول امرأة خزّافة في لبنان، ذهبت دوروثي إلى الدانمارك لتوسيع أفقها الفني وصقله، ثم إلى اسكتلندا لدراسة الخزف في كورنويل حيث يعمل الخزاف العالمي برنارد ليتش (1887-1979) رائد السيراميك الحديث الذي جمع صفات الخزف الياباني مع الرؤية الغربية في آن. وبعد الدرس وتدريس الخزف لمدة سنتين في غلاسكو في اسكتلندا (1968-1970)، عادت إلى بيروت وأصبحت أول أستاذة سيراميك في لبنان! زاولت التعليم في «الجامعة اللبنانية الأميركية» في بيروت من عام 1971 إلى عام 1982 كما يشرح لنا سيزار نمور. ويضيف: «ريادتها أساسية وجوهرية في هذا الإطار، لكن الأهم أنها أدخلت تقنيات جديدة إلى صناعة الخزف عندنا. قبل دوروثي، كان الجميع يطبخون الفخار على 900 إلى 980 درجة مئوية أي ما يسمى الـ earthenware. أما هي، فانتقلت إلى خيار طبخه على درجات أعلى بين 1200 إلى 1280 مئوية أو ما يسمى stoneware. بذلك، كانت أول خزّافة في الشرق الأوسط تستعمل التقنيتين».
ابتعدت دوروثي إذاً عن طباخة الخزف التقليدية، وانتقلت بها إلى مرحلة أخرى ودرجات مئوية أعلى لصقل الأعمال الفنية، راسمةً بالتالي الخطوة الأولى للتغيير، لكن مع خيار هام هو اعتمادها على الدولاب غير الكهربائي كأداة أساس للبناء الفني الخزفي. وهنا يكمن جوهر بنيوي في مزج دوروثي سلهب كاظمي بين التحديث والتقليد، وبين النهجين الشرقي والغربي. كما تظهر هنا بنية فلسفتها الاستيتيقية، فقد أسرَّت لمقتني أعمالها عندما زارها في محترفها البيروتي: «هذا هو الدولاب... يملك إيقاعاً خاصاً به، كحلقات الماء أو الموج الذي يتحرك إلى ما لا نهاية. فالطاقة التي تنبعث من هذا الدولاب، لا تقل صوفية عن حلقة الدراويش، إذ يأخذك الاثنان إلى أبعاد أخرى!».

الطاقة التي تنبعث من
هذا الدولاب، لا تقل صوفية
عن حلقة الدراويش

تتنوّع الأعمال المعروضة بين أكوابٍ متعددة الأشكال، وأطباقٍ مختلفة الأحجام، ومزهرياتٍ عضوية الشكل كأن دوروثي صنعتها لنفسها، أو حتى أوعية لها أغطية، ومنحوتاتٍ تجريدية. وكل قطعة تحتفظ بفرادتها ولا مثيل لها. هذا الكمّ من الخزفيات وتنوعاتها، يوحي تلقائياً بانغماس الفنانة بشكل كليّ في عالم الفخار وتزجيجه glazing. اختيار الطلاء الزجاجي يشكّل نصف العمل الفنّي للخزّافين بسبب دقته وصعوبته، وكل خطوة فيه لها ألف خيار وقرار. لن يختلف اثنان على أن محور حياة رائدة الفن الخزفي الحديث كان هنا، بين صناعة الخزفيات والتزجيج. وفي ذلك يشهد سيزار نمّور: «الحقيقة أن دوروثي كانت منصبّة كلياً على صناعة الخزفيات، وحياتها كانت فعلاً مُهداة للخزف. وفي البداية أخذت مكاناً صغيراً لها في بيت جدتها في رومية، وحولته إلى محترف. كان صغيراً جداً! وكانت تعمل بطريقة بدائية نسبياً، يعني الدولاب مثلاً، لم تكن تحركه على الكهرباء بل برجلها. لكن الأهمية الأساسية تكمن في أنها لم تختر أن تكرر، بل كان لكل قطعة فرادتها، فالمزهريات كانت أشبه بمنحوتات. وفي هذه المنحوتات ناحية عضوية طبيعية (غير هندسية) ولم تعد مجرد مزهرية، بل أصبح هناك حركة فيها حياة!».
خلال جولتنا في كواليس التحضيرات النهائية قبل افتتاح المعرض، يبوح سيزار نمّور لنا: «هذه ليست المرّة الأولى التي أجهِّز فيها معرضاً لدوروثي سلهب كاظمي. قبل 43 عاماً أي سنة 1974 في «غاليري كونتاكت» في شارع الحمرا (أسسها الثلاثي، سيزار نمّور ووضاح فارس وميراي تابت عام 1972) حضَّرنا معرضاً لدوروثي، وكان مميزاً! وضّاح فارس صنع ملصقاً جميلاً جداً للمعرض آنذاك». يستذكر نمّور بحنين وفرح: «كنت أعرف دوروثي جيداً. لذا هناك ناحية شخصية اليوم في هذا المعرض الاستعادي التكريمي. وكما ترين، وضعت العديد من الصور لدوروثي في مختلف مراحل حياتها، إلى جانب صور وهي تصنع الخزف في محترفها. الجميل في الستينيات والسبعينيات أنها كانت فترة فريدة من نوعها، فترة الحلم وتحقيق الأحلام!».
ودوروثي سلهب كاظمي التي كان عمرها سريعاً كالشهب، حققت الكثير. لكن أهم إنجازاتها بحسب نمّور عدا التحديث، هو أثرها الفعليّ والمباشر على الأجيال التي تلتها من الخزّافين والخزّافات.

دوروثي سلهب كاظمي: معرض استعادي: حتى 16 تموز (يوليو) ـــ «متحف مقام» (عاليتا ـ جبيل) ـ للاستعلام: 03/271500 ـــ توازياً مع المعرض، ينظّم «مقام» مسابقة بمادة الطين بين الخزافين يفتتح معرضها يوم 17 حزيران (يونيو)