«مَضيقْ تيرانْ/ مَلْيَانْ حيتانْ/ مِتْسَلَّحينْ للمَعرَكَةوعَ الحُدودْ/ جُنودْ أُسودْ/ في الحق نارهم مهلكة
فُوقْهُمْ نُسورْ/ طالْعَة تِدُورْ/ بالنَفَّاثات الفَاتِكَة
يُومْ الخَلاصْ/ قَرَّبْ خَلاصْ/ يَلَّلا نِفُوقْ لِلْمَعْرَكَة»


تلك الأغنية الوطنية الحماسية، وهي من أداء الفنان الراحل محرم فؤاد، وتأليف الدكتور محمود سلامة، وتلحين الدكتورة ليلى الصيّاد، سجّلتها الإذاعة المصرية في الخامس من حزيران عام 1967، أي في أوّل أيام الحرب الإسرائيلية على مصر، وكان طبيعياً أن تذوب في النسيان، بعدما انقلب النصر الموعود إلى هزيمة.

كان ينبغي لتلك الأغنية أن تنتظر نحو خمسين عاماً لكي تنبعث من جديد، ولكن هذه المرّة، في سياق معركة أخرى، خاضتها القوى الوطنية في مصر، ولا تزال، منذ عامين، في سياق ما بات يُعرف بـ«الحملة الشعبية للدفاع عن الأرض»، لمنع إقرار اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، والمعروفة إعلامياً باسم «اتفاقية تيران وصنافير».
لم تكن كلمات تلك الأغنية، يوم كُتبت ولُحّنت، مجرّد استخدام عرضي لجزيرة مقابلة للشاطئ الجنوبي لسيناء عند مدخل خليج العقبة، كما أن إعادة استحضارها، بعد خمسة عقود، لم تكن مجرّدة من باب «البروباغندا» المواكبة للحراك الشعبي/ القانوني الرافض للتنازل عن تيران وصنافير للسعودية. فالعودة إلى الأحداث التي رافقت حرب عام 1967، ومراجعة ما طفا من تسريبات وتحليلات بعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية في نيسان عام 2016، تُعيدان تسليط الضوء على بقعة تتعدى مساحتها بضعة كيلومترات مربّعة، لتكاد تُعادل بحجمها الاستراتيجي ما تمثله دول بأكملها.

تبدّت أهمية
مضيق تيران منذ
احتلال إسرائيل لمدينة
أم الرشراش

ولعلّ الموقع الجغرافي لجزيرتَي تيران وصنافير، جعلهما محور تطوّرات خطيرة شهدها التاريخ الحديث للشرق الأوسط، من أحداث سبقت حرب عام 1967، بثلاثة عقود، على الأقل، ومن المرجح أن تشكّل محور أحداث معاصرة، في ظل ما يجري من إعادة رسم لخرائط المنطقة العربية من جهة، والتموضعات التي تشهدها العلاقات الإقليمية، برعاية الولايات المتحدة، من جهة أخرى.
في الواقع، بدأت الأهمية الاستراتيجية المعاصرة لتيران وصنافير تتبدى بعد عام واحد على قيام الكيان الصهيوني، وكانت البداية، في عام 1949، حين خرقت إسرائيل الهدنة مع مصر والأردن، واحتلت مدينة أم الرشراش (إيلات حالياً). في تلك الفترة، وتحديداً في كانون الثاني عام 1950، نقلت صحيفة «الأهرام» خبراً مفاده أنّ عضواً في الكنيست الإسرائيلي طالب حكومة ديفيد بن غوريون باحتلال جزيرة تيران، بما يمكّن إسرائيل من السيطرة الكاملة على خليج العقبة. وبناءً على ذلك، بادر مسؤول الفتوى في وزارتَي الخارجية والعدل إلى إرسال توصية الى الملك فاروق، ضمّنها خرائط تفصيلية، حول سبل التصدّي للأطماع الإسرائيلية. ومنذ ذلك الحين، بدأت مصر برفع علمها على كل الجزر في خليج العقبة، بما في ذلك تيران وصنافير.
وابتداءً من عام 1953، عمدت مصر الى إغلاق مضيق تيران، وهو الوحيد الصالح للملاحة، ثم راحت تفتّش السفن التي تعبره، وكان ذلك بداية لنزاعات، دارت رحاها في مجلس الأمن الدولي، بناءً على شكاوى إسرائيلية، سعت إلى إضفاء طابع دولي على المضيق، بحجة أن جزيرة تيران «سعوديّة»، وهو ما ردّت عليه الحكومة المصرية بمستندات وافية، تؤكد سيادة مصر على الجزر منذ عام 1906، على أقل تقدير.
كل ذلك، يفسر الكثير من الأحداث التي ارتبطت بتيران وصنافير، منذ أواسط الخمسينيات، وحتى يومنا هذا. ففي عام 1956، استغلت إسرائيل العدوان الثلاثي على مصر، لاحتلال الجزيرتين، ورفضت قراراً دولياً بالانسحاب، مشترطة الحصول على حرية العبور للسفن المبحرة إلى ميناء إيلات، وهو ما فتح المجال أمام معركة قانونية دولية، كان فيها الموقف المصري قوياً، بالنظر إلى اعتبار مضيق تيران ممراً وطنياً، وليس دولياً، استناداً إلى مبادئ القانون الدولي، وخصوصاً أنه يقع بين شاطئين يتبعان لدولة واحدة (مصر)، ولكون عرضه لا يتجاوز المسافة المحددة بموجب الاتفاقات الدولية.

لو أن الجزيرتين سعوديتان لكانت مصر هي المعتدية لا إسرائيل!

ولعلّ هذا ما استند إليه الرئيس جمال عبد الناصر في شهر أيار عام 1967، حين اتخذ قراراً بإغلاق المضيق، وأكد، في مؤتمر صحافي ــ أعيد تداوله خلال أزمة تيران وصنافير الأخيرة ــ أنّ «جزيرة تيران مصرية، وساحل سيناء مصري، وإذا قلنا إن المياه الإقليمية ثلاثة أو ستّة أميال، أو اثنا عشر ميلاً، فهي مياه إقليمية مصرية، والممر الذي تمر فيه السفن لا تتجاوز مسافته ميلاً واحداً عن سواحل مصر»، مشدداً على أنّ «العبور في خليج العقبة، عبر مياهنا الإقليمية، يخترق سيادتنا، وهو عمل عدواني سنواجهه بقوة».
كان قرار عبد الناصر بإغلاق مضيق تيران بمثابة «إعلان حرب»، بالنسبة إلى إسرائيل، ولا سيما أن هذا الممر كان المنفذ الوحيد لها إلى النصف الشرقي من العالم.
ولعلّ ذلك يفتح المجال للحديث عن جانب آخر، من السجال القائم حول مصرية تيران وصنافير، ويتناول بشكل خاص الوضعية القانونية للعدو الإسرائيلي، في تلك الحرب التي اندلعت في مثل هذا اليوم، قبل خمسين عاماً، وتعيد طرح إشكالية بالغة الخطورة، حول الجهة التي قامت بالعدوان. فالتشديد على مصرية تيران وصنافير يؤكد في الحقيقة، بما لا يقبل الشك، أن إسرائيل هي التي اعتدت. أما لو كانت هذه الجزر سعودية، فإن مضيق تيران هو مضيق دولي، وبالتالي فإنّ مصر تكون هي التي اعتدت، فيما يُصبح ما قامت به إسرائيل «دفاعاً عن النفس»!
ربّ قائل إن استحضار التفاصيل المرتبطة بحرب عام 1967، وربطها بالأزمة القائمة حالياً حول اتفاقية الحدود البحرية بين مصر والسعودية، مجرّد ترف نظري؛ وربّ محاجج بأن الحديث عن حرية الملاحة في مضائق تيران عديم الجدوى، طالما أن مصر التزمت بذلك لإسرائيل في معاهدة كامب ديفيد.
ولكن ما سبق ليس تفصيلاً يمكن تجاوزه، وخصوصاً إذا ما تعلّق الأمر بحق سيادي/ استراتيجي معلّق، يراد انتزاعه من مصر، عبر تغيير الحقائق القانونية، وتزييف الوقائع التاريخية، وفي ظل تموضعات جديدة، وإعادة رسم لخرائط الشرق الأوسط، وتوزيع النفوذ فيه، بما يشمل الممرات المائية، من مضيق باب المندب إلى خليج العقبة وقناة السويس، وذلك لهدف لا يخفى على أحد، من أبسط دلائله، أن إسرائيل لم تقدر على إخفاء فرحتها بـ«اتفاقية تيران وصنافير»، التي يُخشى في أن تحوّل النكسة إلى نكستين... أو ربما أكثر!