هكذا يحتفل شعر الجنوب اللبناني، شقيق الشمال الفلسطيني، بانتصار الفعل على واقع الاحتلال، وبانتصار القول الشعري على اغتراب اللغة عن مجالها الحيوي، وبعودة الخيال الى اصله، الى الواقع... ليصير لبيت الشعر بيت من حجر، ومن دون ان نسأل: «وماذا عن اليوم التالي؟» يأخذنا هذا العيد النادر الى آفاق مفتوحة على المعاني. اذ، لا أحد يندم على الحرية.
لم يفطن العرب الى ما فيهم من عطش الى الفرح كما يفطنون الآن. لقد اتخذ الامل مكانة العورة التي تغطى بكثافة الحجاب وبسيولة الخطاب. لكن قطرة من ارض الندى كانت كافية لانفتاح الشهية العاطفية، وربما الفكرية، على فرح جماعي وحَّد فينا وعي الهزيمة القابلة لان تنكسر، ووعي المقاومة القادرة على أن تنتصر.
نصفق للبنان الجميل، نصفق له بلا تورية او تأويل. كنا نحبه، ونحبه اليوم اكثر. لا لان ذكرياتنا تمشي، هناك، على غير هدى في الجنوب الذي اختلط دمنا بعشبه وترابه، ولان شهداءنا الذين قادنا دمهم الى هنا، هم ازهارنا السماوية الباقية هناك... بل لانه انتصر على خرافته : على ضعفه الفولكلوري المراوغ، وانتصر على اسطورة الاحتلال الاسرائيلي الذي لا يخضع للضغط. ولانه احيا في مرآة الاحتلال صورة سايغون المنهارة، التي فتحت تشوهاً في صورة الذات الاسرائيلية عن ذاتها.
ونحب اليوم لبنان اكثر، لانه انتصر ايضاً، ولو الى حين، على ثقافة الهزيمة المتفشية في مواعظ النخب العربية التي حولت مفهومي الحرية والتضحية الى مادة يومية للسخرية، والتي تتربص منذ الآن بتداعيات اليوم التالي المأمولة، عساها تعيد اليها انتاج التبشير بعبثية الاعتراض على قدر اسرائيلي لا يرد!

كل ما في لبنان اليوم جميل: عودة اهل الجنوب الى ارض الجنوب، فجر واسع بلا احتلال. مساء آمن على الشرفة. بلاغة العجائز في التشبه بالشجر العتيق. تحطم سجن الخيام او الباستيل. تعميم النصر على جميع طوائف الشعب اللبناني وقواه السياسية، وعلى قصر بعبدا ايضاً، الأرُز المنثور على المُحَررَّين وعلى المُحَررِّين، والأرْز القادم من الشمال الى الجنوب، تبادل الشتائم على جانبي الحدود الدولية. سخرية الأطفال ممن كانوا يروّعونهم.
وكل ما في لبنان اليوم جميل: انتقال الهامش الى المركز. تبلور الهوية بوعي جماعي أقوى من الفسيفساء. منحدرات الجبال والتلال، والليل النهاري على قطيع الماعز الجريء، والعشب اليابس في طبيعة لم تكترث بالغزاة. وآثار الاحتلال أيضاً جميلة حين تتحول مقتنيات للمتاحف: دبابات وآليات وغنائم حربية تشير الى أن احتلالا ما كان هنا، وفرّ قبل الفجر، دون ان يجد الوقت الكافي لارتداء ملابسه الفولاذية.
تتكرر الاخطاء التاريخية لان احدا لا يتعلم إلا من تجربته. فهل يتعلم أكاديميو الاحتلال الاسرائيلي، ذوو الخبرة الطويلة في هذا المضمار، شيئا من تجربتهم التي دامت حوالى ربع قرن في جنوب لبنان؟ في مقدمة هذا الشيء البسيط: إن الزمن، زمن الاحتلال، لا يُضيّع حق أحد في العودة الى بلاده، ولا يُصنّع حقا مضادا يدعي انه «الاقدم والاحدث» معا، مهما نجحت الوقائع الجديدة في تعديل الجغرافيا والديموغرافيا، ومن هذا الشيء البسيط: أن الاحتلال هو الاب الشرعي للمقاومة.
هذا ما فعلته الانتفاضة الفلسطينية امس، وهذا ما فعلته المقاومة اللبنانية اليوم. لقد ارغمت الاولى اسرائيل على الاعتراف المتأخر بوجود الشعب الفلسطيني وعلى الانسحاب، او إعادة الانتشار، عن جزء من الارض الفلسطينية المحتلة، وأرغمت الثانية اسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان لانها لم تعد قادرة على تحمل ثمن الاحتلال، لا لانها انتبهت فجأة الى قرارات مجلس الامن، وهكذا، فإن الدولة التي لم تكف عن القول ان العرب لا يفهمون غير لغة القوة، هي الدولة نفسها التي يقول انسحابها انها هي نفسها لم تفهم غير لغة القوة.
إن سؤال اليوم التالي عما سيفعل اللبنانيون بانتصارهم بعدما أنجزت المقاومة المسلحة برنامجها الوطني، وعن مدى انسجام برنامجها الاجتماعي مع متطلبات المرحلة اللبنانية المقبلة، وعن تداعيات الانسحاب المحلية والاقليمية، وغيره من الاسئلة السهلة والصعبة، لن يوقف عدوى الامل الكبير الذي ايقظه لبنان الصغير في قارة عطشى الى الحرية والديموقراطية.
لقد استعادت ثقافة المقاومة، بمعناها الواسع، بعض اسلحتها الفكرية التي صادرتها برغماتية مبتذلة لا تميز بين التسوية والسلام، ولا توازن بين الدفاع عن الحقوق وبين إدراك الممكن.

* جزء من نص خطاب القاه محمود درويش في جامعة بيرزيت بتاريخ 29 أيار 2000 احتفالا بتحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي