ثمة خلاصة أساسية يمكن الخروج بها من مؤتمر "الصناعات البترولية"، الذي نظّمه المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق في فندق ريفييرا، أول من أمس، وهي أن الدولة تخلّت عن سيادتها وحقوقها في قطاع النفط. تكفي مراجعة المادة الخامسة من نموذج اتفاقية الاستكشاف والإنتاج للأنشطة البترولية للتثبت من هذه الخلاصة، فهذه المادة تشير إلى أنه «ليس للدولة نسبة مشاركة في دورة التراخيص الأولى».
فماذا يعني أن تحصل الدولة على مشاركة بعد توقيع عقود الاستكشاف والإنتاج مع شركات القطاع الخاص؟ ألا يعني ذلك أن المحظور وقع وأنه لا يمكن استدراك هذا الأمر لاحقاً؟ هذه المسألة بالتحديد، كانت محور النقاش على هامش المؤتمر بعيداً عن لغة أوراق العمل ولياقات المتداخلين.
تخالف المادة المذكورة قانون «الموارد البترولية في المياه البحرية» الرقم 132 الذي صدر في 2010، ولا سيما المادة السادسة من القانون التي تشير إلى أن الدولة «تحتفظ بحق المشاركة وتحدد حصتها في الرخصة أو اتفاقية الاستكشاف بموجب مرسوم يصدر بناءً على اقتراح الهيئة، ويمكن عند الاقتضاء وبعد التحقق من وجود فرص تجارية واعدة، إنشاء شركة بترول وطنية تصدر بمرسوم بناءً على اقتراح الهيئة».
ما قامت به الدولة واضح لجهة التخلّي عن أي دور فعلي لها في قطاع النفط. وقد يكون هذا التخلّي مجرّد إهمال على افتراض أن حسن النية موجود، لكن تجربة لبنان ما بعد الحرب الأهلية ترجح فرضية سوء النيّة. تفسير الوزير السابق شربل نحّاس، أن الأمر مقصود لأنه لم يقتصر على هذا التفصيل فقط، بل «كان هناك مسار عجيب ومقلق، إذ انتقل الملف من الجمود لفترة طويلة وسجالات محتدمة حوله، إلى خطوات تنفيذية مفاجئة في الحكومة الجديدة التي أقرّت المرسومين في أول جلسة لها! اللافت أن الإقرار لم يأخذ في الاعتبار السجالات السابقة، فعلى سبيل المثال، بعد صدور قانون النفط كان النقاش عن تركيا التي تعترض على الترسيم وتطالب بالأخذ في الاعتبار مسألة مشكلتها مع قبرص التركية، وبالتالي لم يكن هناك أي نقاش عن أي غلطة في عملية الترسيم بحدّ ذاتها، لكن فجأة صار الحديث عن البلوكات وتوزيعها من دون أن نعرف من هو مرتكب الغلطة».
لا يمكن تصنيف هذه الخفة في التعاطي مع ملف بهذا الحجم كمؤشر جيّد، فيما المنطقة تمر بحروب مموّلة بأموال النفط ويعاد النظر في حدودها على أساس أول بئر نفط وآخر مكان يصل إليه أنبوب النقل. لا بل كان لافتاً أن تظهر هذه الخفة في غياب أي تخطيط استراتيجي للقطاع تشكل الشركة الوطنية عنصراً أساسياً فيها. فبحسب رئيس المركز الاستشاري عبد الحليم فضل الله، إن الدولة «هي الناظم الأساسي لسياسات القطاع»، أي أن تحكّمها بمسار القطاع «يقتضي أن تكون شريكاً فعالاً وحاسماً في اتخاذ القرارات المفصلية وامتلاك الدولة من خلال الشركة الوطنية، مثلاً، حصصاً في رخص الاستكشاف والإنتاج يقوي موقعها في اتخاذ القرارات التشغيلية ويعزّز قدرتها على الوصول إلى البيانات ويساعد على التوفيق بين وتيرة الإنتاج والسياسة النفطية العامة التي تتبناها الدولة».
يتطلب الأمر وجود سياسات عامة، فما هي خيارات الدولة؟ الإجابة رسمها نحاس وهي مبنية على الواقع اللبناني لفترة ما بعد التسعينيات. يقول نحاس إن معظم الدول تدفع لمواطنيها من أموال النفط من خلال عملية توزيع مباشرة أو مبطنة (دعم أسعار البنزين، دفع رواتب شهرية...) ينجم عن كل ذلك زيادة في الاستهلاك والاستيراد «وهذا بالتحديد ما دأبنا على القيام به منذ انتهاء الحرب، فقد تدفق أكثر من 200 مليار دولار من الخارج من التسعينيات إلى اليوم وقمنا بتوزيعها. اشترينا السلم الأهلي ونظّمنا تشكيلات سياسية اجتماعية مختلفة، ورتبنا أوضاع الأفرقاء كافة. باختصار، استهلكنا هذا المبلغ، وهو مبلغ لا يختلف بأي شكل عن أي مبلغ مماثل سيأتي من النفط. تركيبتنا السياسية الاجتماعية الاقتصادية مؤهلة لهضم مبلغ كهذا».
هذا يعني أن اللجوء إلى خيار كهذا في التعامل مع قطاع النفط لم يكن مبنياً على التخطيط الاستراتيجي للأهداف، وللخيارات المتاحة، وأدواتها. أدّى ذلك إلى فقدان لبنان «التحكّم بوتيرة تحويل المخزون الأحفوري إلى مخزون مالي»، فقد جرى إمرار بعض الخيارات المطروحة «بالجملة ومن دون أي نقاش». فعلى سبيل المثال، كان يمكن إبقاء النفط كمخزون أحفوري في انتظار الوقت المناسب، وقد يكون الوقت المناسب هو لحظة الأسعار المستقبلية، أو اعتبارات متصلة بعدم الثقة في السلطة التي ستدير الأموال المولدة من النفط، أو لاعتبارات متصلة بمخاطر ديموغرافية وأمنية... هذا الخيار ليس بسيطاً لأن الشركة المستخرجة للنفط لديها أهداف مختلفة. كان يمكن القول إن لبنان يريد استخراج المخزون وتحويله إلى ثروة مالية يستخدمها في إطار «إدارة الثروة». وهناك نقف أمام أكثر من خيار، فهناك من سوّق لاستخدام الأموال من خلال توظيفها في الخارج (شراء سندات وأسهم وحصص في شركات في الخارج...) وثمة من تحدّث عن إطفاء الدين العام وهذا يعني أن «لبنان سيدفع من إيرادات النفط ديونه للمصارف، ما يضطره إلى احتواء هذه الكتلة الضخمة لإبقائها في لبنان، أو خفض الفوائد على الودائع... وفي الحالتين الكلفة كبيرة، سواء كلفة تجميع هذه الأموال في لبنان، أو كلفة إبقائها. وقيل أيضاً إنه يمكن الاستدانة أكثر بالاستناد إلى أموال النفط القادمة «وفي الواقع هذا ما نقوم به اليوم، إذ إن حكومة الأمر الواقع تزيد ديونها على أساس النفط القادم».
لكل خيار أثره الاقتصادي والمالي «لكننا لا نزال ضمن درس إدارة المخزون وتشعباته»، فإذا انتقلنا إلى استخراج النفط فمن المهم أن نسأل إذا كان الخيار هو الاستثمار أو الاستهلاك. بكلام آخر، إن المبلغ المتولد من استخراج النفط يزيد الثروة الاقتصادية الصافية، وبالتالي فإن الاستثمار هو ضخّ هذه الأموال في الاقتصاد بما يحقق التوازن بين رأس المال والعمالة.

أكثر من 200 مليار دولار تدفقت على لبنان من الخارج منذ التسعينيات

في حالة لبنان، «دخل 1.5 مليون نازح سوري بما يؤدي إلى تحوّل عميق غير قابل للارتداد عنه، وبالتالي فإن الاستثمار يعني زيادة كمية رأس المال الموظفة، لكن لأي عمالة سنزيد رأس المال؟ هل سندمج العمال الأجانب في الاقتصاد من كل الجنسيات أو انتقائياً؟ لا يجب أن ننسى ما حصل في دول الخليج حيث العمالة كلها مستوردة وهذا تحدّ مجتمعي غير بسيط. هل سنذهب لتملك قدرات إنتاجية مثل أوروبا لنضمن الاستقرار السياسي على المدى الطويل لضمان استثماراتنا؟ الحديث عن نموذج يغير في الداخل ويغير في علاقاتنا مع الخارج». بمعنى ما، يقترح نحاس السؤال الآتي: ما هو نظام الاستثمار الذي يولّد دولة وسياسة ومجتمعاً؟ هل نريد الاستهلاك؟ أم نريد مساراً يدمج بين إدارة المخزون والاستهلاك والاستثمار بنسب مختلفة؟
خلاصة نحاس من تجربة ما بعد التسعينيات أن لبنان من بين الدول القائمة على النهب، سواء من خلال فرض خوات وأتاوات أو إقناع الناس بأن هناك مالاً سائباً. «عندما يكون منطق النهب هو الغالب، يصبح التمثيل السياسي لتقاسم نتيجة النهب ولا يعود لخيارات الإنفاق والجباية».
هذه الهواجس كانت حاضرة في مؤتمر الصناعة البترولية، سواء مباشرة أو في الأحاديث الجانبية، والقلق كان يتمحور حول الشركة الوطنية بوصفها أداة تجارية ــ سيادية. فهذه الشركة التي تعدّ أحد الخيارات الأساسية لأي استراتيجية، جرى التخلّي عنها بشكل فاضح. وقد عبّر بعض المشاركين في المؤتمر عن هذا التخلّي بالإشارة إلى الفساد المنتشر في لبنان، منتقدين ما قاله وزير الطاقة سيزار أبي خليل عن «الموازنة بين السرعة والشفافية»، إذ لا يمكن أن تكون «للشفافية نسبتها».
رغم ذلك، تحدّث رئيس الوحدة الاقتصادية في هيئة إدارة البترول وسام الذهبي، عن «تضليل وافتراء». ما استفزّ الذهبي هو الخبير النفطي نقولا سركيس الذي تحدّث عن «تزوير لقانون الموارد البترولية» وعن «دور الدولة السيادي في قطاع النفط»، وقدّم ردّاً تقنياً انفعالياً عن اقتباس إسرائيل عن لبنان بعض المعادلات المتعلقة بحصّة الدولة، إلا أن أحد الخبراء اللبنانيين الآتي من كندا، عاجله بتصحيح لمعلوماته المغلوطة عن وجود هذه المعادلات قبل سنوات كثيرة. صدقية الذهبي وقعت فريسة الدفاع عن منطق النهب الذي عبّر نحاس عن القلق منه.




آراء في الصندوق السيادي

يعتقد الرئيس السابق وعضو الهيئة الناظمة لإدارة البترول في لبنان، ناصر حطيط، أن إنشاء صندوق سيادي لا هدف له سوى إدارة أرباح الطاقة واستثمارها للأجيال المقبلة. ويرى حطيط أن المسألة الأساس في قطاع النفط متصلة بخلق الوظائف. ثمة سؤال تجب الإجابة عنه: هل نستخرج البترول ونصدّره أم نستخرجه ونصنّعه؟ إن الاستثمار في الوظائف المرتبطة أمر حيوي، وهذا ما يجب أن نفعله خلال السنوات المقبلة.
وعندما بدأ النقاش في الصندوق السيادي المقترح، علّق الخبير النفطي ربيع ياغي بالإشارة إلى أن النقاش في هذا الأمر غير مفيد، نظراً إلى الوقت الذي سيتطلبه الانتقال من المرحلة الحالية حيث تجري عملية الاستكشاف، وصولاً إلى المرحلة التالية، أي الاستخراج وتطوير الحقول والإنتاج التجاري. ويلفت ياغي إلى أنه «لن يكون لدينا إنتاج تجاري قبل 2025، وبالتالي إن الحديث عن الصندوق يمكن أن يكون استباقياً، لكنه اليوم عبارة عن قفزة في الفراغ. الضريبة والرسوم الحالية لا تشكّل مبلغاً مجدياً لإنشاء الصندوق السيادي». وبحسب نقيب خبراء المحاسبة السابق أمين صالح، فإن النصّ القانوني الذي يرعى إنشاء الصندوق السيادي لا يزال غامضاً ومبهماً وملتبساً.






فضل الله: معدل ضريبي غير مفيد

يشير رئيس المركز الاستشاري عبد الحليم فضل الله، إلى أن خفض الضريبة إلى 20% لجذب الشركات النفطية العالمية، نسبة «شديدة الانخفاض مقارنة مع المعايير العالمية». وبحسب دراسة للمركز الاستشاري، تبيّن أن هناك 43 دولة تتبنى صيغة عقود المشاركة في الإنتاج، ويبلغ فيها متوسط ضريبة الدخل المفروضة على الشركات 31%، فيما هناك 68% منها تفرض معدلاً يفوق 25% على الأرباح أو ما يساويه في مقابل ست دول فقط حدّدت المعدل الضريبي بـ20% أو أقلّ.
ويشير فضل الله إلى أن هذا المعدل الضريبي هو أقل من المطلوب «ويحرم الخزينة عوائد مستحقة، ومن شأنه أن يخفض الحصّة الوطنية من عائدات الثروة النفطية في ظل الحضور الضعيف أو المعدوم للشركات اللبنانية في دورة التأهيل الأولى والثانية، لا بل تظهر نتائج السياسات المالية والاقتصادية للدول النفطية، أنّ اعتماد ضريبة دخل على الشركات لا يعدّ عامل تحفيز حاسم مقارنة مع حوافز مالية أخرى أسهم تطبيقها في جذب الشركات الأجنبية من دون التفريط بحقوق الخزينة».
ويطرح فضل الله تساؤلات عمّا ستفعله الدولة بالعائدات النفطية، «فقد آن الأوان للخروج من مركزية الدين العام. استطعنا احتواء الدين العام بمجموعة إجراءات وموّلنا كلفته وغطّيناه بالسياسة النقدية التي استخدمت لجذب الودائع من الخارج، وبالتالي لسنا مضطرين لاستخدام أموال النفط لاحتواء الدين العام». يشير فضل الله إلى أن وثيقة رسمية تحدثت عن تكريس عوائد النفط لسداد مستحقات الدين العام إلى أن يتراجع حجم الدين إلى ما دون 60% من الناتج المحلي الإجمالي. وهناك جهة اقترحت تخصيص الجزء الأكبر من إيرادات النفط والغاز للدعم الاجتماعي، حتى لو تطلب الأمر توزيع مخصصات منتظمة للأسر، على أن تطبق الدولة ضريبة تصاعدية تعيد لها جزءاً من فوائض النفط والغاز على حساب الأثرياء.






خشية كمال حمدان من منطق الجزيرة

غياب التخطيط لا يقتصر على السياسات العامة التي يجري نقاش سطحي حولها، لكنه يغيب كلّياً عن بعض تشعّبات القطاع مثل الموارد البشرية في قطاع النفط. وبحسب الخبير الاقتصادي كمال حمدان، فإن سوق العمل فيه فجوات بنيوية في الأصل بين العرض والطلب، وفي التفاصيل يظهر أن نسبة المتخرجين في الهندسة والعلوم تراوح بين 15% و20%، وعندما يجري التعمّق أكثر بهذه التخصصات، يتبيّن أن المشكلة أكبر من ذلك، إذ إن هناك تخصصات يغلب عليها الطابع النظري، وليست هناك تجربة مهنية لغالبية المتخرجين، ما يعني أنّ علينا الخروج من منطق الجزيرة التعليمية إلى المحيط الأوسع.
ويعتقد حمدان أن مشكلة قطاع النفط تكمن في محدودية الطلب المباشر على العمالة، إذ إن العاملين في قطاع النفط في أميركا يمثّل 0.5% من القوى العاملة «ولا يمكن أن يأخذ الأمر أبعاداً إلا بما يتجاوز الأثر المباشر، أي العمل على تطوير النشاطات ذات الصلة مثل التأمين والنقل وصناعة البتروكيماويات والخدمات والتجديد الطاقوي...».
هذا هو التحدّي الماثل أمام لبنان اليوم، ويمكن اختصاره بـ«سياسات المحتوى المحلي». تبدو هذه السياسات نقطة الانطلاق المستندة إلى الأثر المباشر للعمالة للوصول إلى دوائر أكبر وأكبر حول القطاع الضيّق، أي بكلام آخر يمكن إعادة الاعتبار إلى إنتاجية العمل، وخصوصاً في قطاع الصناعة، لكن «هل هناك إطار سياسي ومؤسساتي قادر؟ إذا لم يكن لدى الدولة دور أساسي يخشى أن يسيطر منطق الجزيرة وتضمحل الآفاق الكامنة». كان العمل الأساسي للمهندسين يتركز في قطاع العقارات، ثم تخصص في الهجرة، والكارثة تكمن في التفاعل الإيجابي مع قطاع صناعة النفط، فعن أي محتوى تعليمي نتحدث، وعن أي تهيئة وتدريب للقوى العاملة؟