دمشق | ربما لا يعلم كثيرون أن آلاف منسوجات «الأغباني» الشهيرة، التي تزيّن منازل العديد من السياسيين والدبلوماسيين والسياح حول العالم، شُغلت بأيدي نساء مدينة دوما؛ المدينة التي كانت توصف اجتماعياً قبل الأزمة بأنها مُحافظة، رغم ازدهارها الاقتصادي والعمراني، وأصبحت خلال الحرب بمنزلة «إمارة» أو «عاصمة» للحركات والفصائل الإسلامية المسلحة.حكاية «الأغباني» مع مدينة دوما فيها الكثير من المفارقات قبل الحرب وخلالها، إذ كيف يمكن تصديق أن المهنة التراثية الأعرق في سوريا، والتي يعود تاريخها إلى ما قبل 500 عام، تقوم على إبداع و«حرفنة» نساء، تفرض عليهن العادات والتقاليد الاجتماعية لباساً معيناً، وتقييداً في الحركة والتواصل مع البيئة المحيطة.

وكيف يمكن تصديق أن هذه المدينة التي حمت مهنة تراثية يفتخر بها السوريون، أصبحت في زمن الحرب تضم سجناً يُحتجز فيه آلاف المدنيين الأبرياء، وتلصق ببعض أبنائها جرائم مروعة، كتلك التي شهدتها مدينة عدرا العمالية في بداية عام 2014.

آلاف العائلات

أكثر من ستة آلاف فتاة وسيّدة، معظمهن من مدينة دوما، كنَّ قبل الحرب يشكلن الحلقة الرئيسية في إنتاج أقمشة الأغباني، لا بل إن أم هاني حمدالله، الموجودة إلى اليوم في سوق المهن اليدوية وسط دمشق، تؤكد أن عدد الفتيات والسيدات اللواتي كنَّ في دوما يعملن في «تطريز» الأغباني أكبر من ذلك بكثير، إلى درجة أن إناث العائلة جميعاً، أو معظمهن على الأقل، كنَّ يعملن في هذه المهنة، من ربة المنزل إلى بناتها فأخواتها وزوجات أبنائها وغيرهن.
وتضيف في حديثها إلى «الأخبار»: حلقات العمل في صناعة أقمشة الأغباني «تبدأ بقص القماش المنتج محلياً أو المستورد وفق الأشكال المطلوبة، ثم ترسل قطع القماش تلك إلى المطبعة، حيث تطبع الرسوم الرائجة والمطلوبة، وذلك عبر قوالب خشبية خاصة، بعد ذلك يجمع القماش ويرسل مع الخيوط ومستلزمات التطريز إلى ورشات العمل المنزلية المنتشرة في دوما، وبعض مناطق ريف دمشق، لتطريز الرسوم بخيوط متعددة الألوان، حريرية ومقصبة، وباستخدام ماكينات تطريز خاصة». ورغم أن تكلفة التطريز تشكّل نحو 50% من تكلفة صناعة القطعة الواحدة، إلّا أن الوقت الطويل الذي يحتاج إليه تطريز القطعة الواحدة والأجور المنخفضة، جعلا دخل المشتغلات في التطريز يبدو قليلاً بالقياس إلى مستوى المعيشة والعمل المنجز، لكن الوضع الاجتماعي الحاكم لحياة كثير من نساء دوما غطّى على سلبية الدخل.
في محله الكائن في سوق الخياطين في دمشق، يذكر سامر النقطة، وهو أحد القلائل الذين لا يزالون يعملون في صناعة الأغباني وتجارتها، أن جده، وهو صاحب فكرة إهداء ملكة بريطانيا ثوباً مصنوعاً من البروكار الدمشقي، وبغية المحافظة على استمرارية صناعة الأغباني، اشترى قبل عقود عدة ما يقرب من 32 ماكينة تطريز، ووزعها مجاناً على بعض منازل القرويين في دوما.
ويضيف في حديثه إلى «الأخبار»: قبل الحرب كان يتوجه أسبوعياً إلى دوما حاملاً معه قطع القماش التي تحتاج إلى تطريز، يسلمها إلى سيدات يشرفن على عدة ورش، ويُعلمهن بما يريد، ثم يتسلم منهن ما أنجز بعد تسديد أجرته ويعود أدراجه إلى محله، وأحياناً كان يضطر إلى الذهاب مرتين في الأسبوع، فالإقبال على شراء الأغباني كان جيداً من السياح والدبلوماسيين العرب والأجانب.

نزوح التراث

دخلت مدينة دوما باكراً في أتون التظاهرات والاعتصامات، ولاحقاً في العمل المسلح، وهو تطور أثّر سلباً على عمل المشتغلات بالأغباني، اللواتي بتن تدريجياً عاطلات من العمل مع تعذر إيصال أقمشة الأغباني إليهن من دمشق، ثم مع فقد بعضهن لماكينات التطريز، وذلك نتيجة اضطرارهن وعائلاتهن إلى النزوح والخروج من مناطق الاشتباكات والمعارك إلى مناطق أخرى أكثر أمناً. وحسب ما تذكر أم هاني حمدالله، فإن «ما آل إليه حال دوما في ظل الحرب، وصعوبة إيجاد بديل لعاملات التطريز، يهددان اليوم بانهيار كامل لصناعة الأغباني».
وهذا أيضاً ما خلصت إليه الدراسة التي أجرتها مؤخراً الجمعية السورية للثقافة والمعرفة، ورصدت من خلالها مئة عنصر من التراث اللامادي السوري؛ فقد أكدت الدراسة أن «بعض المحاولات جرت لنقل الصناعة خارج سورية، إلّا أنها لم تنجح، لذلك يحاول بعض التجار التواصل مع المشتغلات في التطريز اللاتي نجحن في الخروج من مناطقهن المحاصرة وتوفير آلات حياكة لهن، لكن النشاط محدود والعدد الكلي للمشتغلات أقل من عشرين». كذلك كانت هناك محاولات للاستفادة من خبرة المشتغلات اللواتي خرجن من دوما لتدريب غيرهن، لكن لم تنجح أيضاً تلك الخطوة، والسبب وفق ما يكشف أحدهم يعود إلى رفض عائلات المشتغلات السماح لهن بالانخراط في عمليات التدريب لأسباب اجتماعية، رغم أن بعضهن عدن إلى العمل. وحسب ما يؤكد سامر النقطة، فإنه استطاع التواصل مع بعض العائلات التي نزحت من دوما، وعادت إلى العمل في تطريز الأغباني، وهذ أمّن عودة بعض منتجات الأغباني إلى رفوف متجره، لكنه يعود ليؤكد أن المشكلة لا تزال قائمة، سواء لجهة العدد المحدود جداً للعاملات، أو لقدرتهن على تطريز جميع الرسوم، إذ إن هناك أقمشة برسوم معينة لم تعد موجودة لصعوبة تطريزها، وحاجتها إلى مهارة وخبرة فائقتين.
واللافت في حديث النقطة، أن الأمر لم يعد يتعلق بمهنة الأغباني، فالحرب قضت أو أوقفت نشاط مِهنٍ وصناعات تراثية كثيرة، كانت تعتمد على مهارة وخبرة مناطق معينة في ريف دمشق، وبالتالي فإن استعادة تلك المناطق لأمنها واستقرارها من شأنها إحياء إنتاج تلك المهن العريقة والمحافظة عليها، وتوفير مصدر دخل لآلاف العائلات الفقيرة والمحتاجة.