كان | مع نهاية الأسبوع الأول من عمر الدورة السبعين من «مهرجان كان» السينمائي، بدأت معركة الترجيحات. من بين 8 أفلام عرضت في المسابقة الرسمية (من مجموع 19)، هناك 5 على الأقل يرشحها النقاد للمنافسة على الجوائز الرئيسيّة، ما يشير إلى دورة خصبة، وحافلة بالمفاجآت.
من بين هذا الأعمال الخمسة، ثلاثة لـ «الوافدين الجدد» على الكروازيت: Okja للكوري بونغ جون هو، و«الحديقة» للسويدي روبن أوستلوند، و«100 نبضة في الدقيقة» للفرنسية روبين كامبيلو. لكن الصدارة ظلت بأيدي الكبار. في طليعة الأعمال الأكثر تألقاً في جردة حساب الأسبوع الأول، فيلمان لمخرجين كبيرين أهّلتهما ترجيحات النقاد ليكونا مشروعي سعفتين. أحدهما جسّد التراجيديا في أقسى صورها وأبهاها، بينما حمل الآخر إلى الكروازيت نسائم منعشة من الخفة والفكاهة الساخرة. إنهما «بلا حب»، رائعة الروسي أندريه زفاغينتسيف، و«الرهيب» للفرنسي ميشال هازانافيسيوس، الذي استعاد رواد الكروازيت، من خلال عروضه لحظة مفصلية في تاريخ المهرجان، سبّبت إلغاء فعالياته عام 1968، في خضم الثورة الطلابية الفرنسية، تحت ضغوط جان لوك غودار ورفاقه من أقطاب سينما «الموجة الجديدة».

أندريه زفاغينتسيف تفرّد برؤية إخراجية منحت فيلمه جماليات تشكيلية آسرة


طرق «بلا حب» واحدة من التيمات التي تناولتها أعمال عدة في هذه الدورة، وهي الطفولة المعذبة («الأخبار» ـ 19/05/2017)، لكن المعلم الروسي، سليل مدرسة الشكلانيين العريقة، تفرّد برؤية إخراجية منحت فيلمه جماليات تشكيلية آسرة، عمادها الإيقاع البطيء، واللغة البصرية المكثفة، والصنعة المتقنة على صعيد الإضاءة، ما جعل شخوصه تتقلب باستمرار بين الظل والضوء والعتمة. وقد انعكس ذلك، على صعيد المضمون، من خلال التباس الحدود التقليدية بين الخير والشر، ما حصّن الفيلم من الشطط الميلودرامي: العدو اللدود (والقاتل) للتراجيديا!
لم يكن التحدي الذي تصدى له «الرهيب» لميشال هازانافيسيوس، بالأمر اليسير. صاحب رائعة The Artist، الذي جازف، قبل ستة أعوام، بإنجاز فيلم صامت بالأبيض والأسود، عاد ليرفع رهاناً محفوفاً بالمخاطر: إنجاز فيلم عن سيرة أيقونة الموجة الجديدة جان لوك غودار، الذي ما زال على قيد الحياة، وما زال مستعصياً على التصنيف (وعلى الفهم أحياناً!).
لكن «الرهيب» استطاع أن يفلت من المطبات التي غالباً ما تطيح أفلام السيرة: الجدية المبالغ فيها، والمقاربة الانبهارية التي كثيراً ما تفضي إلى تمجيد صاحب السيرة بدلاً من أنسنته. لم يكن سهلاً تفادي ذلك، حين يتعلق بالأمر بشخصية مثل غودار، الذي لم يكف، منذ نصف قرن، عن إضرام الحرائق في ربوع الفن السابع، مؤسساً لـ «سينما مفكرة» انتزعت اعتراف الخصوم وتقديرهم قبل المعجبين.
وجد هازانافيسيوس ضالته في الكتاب الذي أصدرته، عام 2015، الممثلة آن فيازيمسكي، زوجة غودار السابقة، التي كانت مرتبطة به خلال مرحلة المخاض التي واكبت الثورة الطلابية (1967 - 1969)، قبل أن ينفصلا عام 1970. كان ارتباط آن فيازيمسكي ــ حفيدة صاحب «نوبل» للآداب، الديغولي فرانسوا مورياك ــ بعرّاب «الموجة الجديدة» فعلاً ثورياً بحد ذاته. وقد روت الممثلة قصة لقائها العاصف بصاحب «بيارو المجنون» (1965) في كتاب حمل عنوان «سنة حافلة». لكنها انتظرت 45 سنة كاملة قبل أن تكمل السيرة بكتاب «عام من بعد» الذي رصدت فيه وقائع معايشتها لأحداث مايو 68 إلى جانب غودار حتى انفصالها عنه، بعدها بعام واحد، إثر محاولة غودار الانتحار، على خلفية خلافات نشأت بينهما في روما، عندما كانت آن تؤدي بطولة فيلم «بذرة الإنسان» لماركو فيريري.
كرست فيازيمسكي كل موهبتها الروائية (نالت الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية، عام 1998، عن روايتها «حفنة من الناس») لرسم بورتريه عن غودار ينضح حيوية وتألقاً. ورغم نظرة العاشقة المعجبة التي سلطتها على صاحب «الاحتقار» (1963)، إلا أن كتابها لم يخل من النقد والسخرية. إذ استعارت روح الفكاهة الغودارية، للتندر على بعض أفكار غودار وشعاراته الثورية الفاقعة، وتسليط الضوء، في قالب من الرقة والحميمية، على تناقضاته ونزقه وخيباته.
تلفق ميشال هازانافيسيوس الفكاهة الغودارية التي احتلت مكانة مركزية في كتاب فيازيمكسي، ونفخ فيها بعضاً من روح الـ burlesque، التي تشتهر بها أعماله، من «القاهرة، عش الجواسيس» (2006) إلى «الفنان» (2011). بذلك، استطاع أن يجمع بين الخفة الكوميدية والعمق الفكري، ونجح في أنسنة بطله (غودار)، مغلفاً طوباويته وقلقه الوجودي في قالب من الفكاهة السوداء المحببة.
منح الشريط الكروازيت واحدة من تلك المحطات الكوميدية الساحرة، التي ستبقى ماثلة في الذاكرة، وتشكل امتداداً لروائع مماثلة من قبيل O’Brother للأخوين كوين (2000)، و«الغزوات البربرية» لدوني أركان (2003)، و«شباب» لباولو سورانتينو (2015).
لكن المعضلة أنّ «كان» لم يسبق أن منح «السعفة» لأيٍّ من تلك الروائع الكوميدية التي أبهرت الكروازيت. فهل ينجح «الرهيب» غودار في خلخلة هذا التقليد المغالي في الجدية؟ عوامل كثيرة قد تساعد على ذلك: الهوية السينمائية لرئيس لجنة التحكيم، المعلم الإسباني بيدرو ألمودوفار، الذي سيراهن حتماً على المغايرة، وشخصية غودار (الروائية والفعلية) التي أولع بها جمهور الكروازيت، والمخرج ميشال هازانافيسيوس، الذي سيتطلع المهرجان حتماً إلى التكفير عن الذنب الذي ارتُكب بحقه، حين استبعد رائعته The Artist من الجوائز الرئيسيّة للمهرجان، عام 2011، باستثناء منح جائزة أفضل تمثيل لبطله جان دوجاردان. أمر شكل يومها مفاجأة مخيبة، بعد الحفاوة النقدية التي حظي بها الفيلم، ومهّدت لنجاحه العالمي، إذ نال أكثر من 100 جائزة عبر العالم، وأحرز خمسة أوسكارات...





جيل «الغضب العربي» آتٍ!



مع كل دورة جديدة من «مهرجان كان»، يعود السؤال ذاته إلى الواجهة: أي حضور للسينما العربية؟ وهل في الأفق ما ينبئ بميلاد جيل جديد، من شأنه أن يحيي أمجاد العرب في «كان»؟ أمجاد أسَّس لها «جيل الرواد»، من محمد الأخضر حامينا («السعفة الذهبية» – 1975) إلى يوسف شاهين (سعفة خمسينية «كان» – 1997).
مع انتصاف الدورة الحالية، نستطيع الجزم بأنّ هذا الجيل العربي الجديد بات واقعاً لا حلماً. بعد محمد دياب، ورائعته «اشتباك» التي شدت جمهورَ الكروازيت ونقادَه العام الماضي، دخلت التونسية كوثر بن هنية معترك تظاهرة «نظرة ما»، أول من أمس، بفيلمها «على كف عفريت»، الذي يختصر وحده سمات هذا الجيل العربي الواعد: سينمائيو الغضب، الذين يحملون هموم جيلهم وتطلعاته، ويتقنون بامتياز لغة عصرهم وثقافته وتقنياته.

أفلام لبنانية غاصت عميقاً في التناقضات الفاقعة للراهن

كوثر بن هنية، التي اكتشفتها الكروازيت من خلال باكورتها «شلّاط تونس»، التي قُدمت عام 2014، ضمن برنامج ACID، الذي يخصصه «كان» لاكتشاف المواهب الشابة، تعود هنا بالنفس النضالي النسائي ذاته، وبالروح الشبابية التي تطبع جيلها الذي تربى على الثقافة الرقمية، مشهراً إياها كسلاح في وجه الاستبداد والهيمنة الذكورية. في «الشلّاط» اقتبست بن هنية فيلمها من قصة واقعية لشاب روّع الشارع التونسي، حيث كان يتجول على متن دراجته النارية حاملاً موسى حلاقة «يشلّط» بها أرداف النساء اللواتي يصادفنه. على المنوال ذاته، اقتبست قصة «على كف عفريت» من واقعة شهيرة هزت تونس ما بعد الثورة، وتمثلت في اغتصاب مجموعة من رجال الشرطة لطالبة جامعية، ومحاولة التستر على ذلك، بحجة أن الفضيحة من شأنها أن تسيء إلى سمعة رجال الشرطة الذين يتصدون للهجمات الإرهابية التي تهدد بوضع مستقبل البلاد «على كف عفريت»!
فضلاً عن الإتقان الفني والحبكة الإخراجية المحكمة، حملت صاحبة «زينب لا تحب الثلج»، في فيلمها هذا مفاجأة سارة أخرى تجسدت في حزمة من المواصفات المحببة التي تتسم بها الحركة النسائية العربية الجديدة: نبرة نضالية عالية، لكن من دون صراخ أو شعارات فاقعة!
في انتظار فيلم عربي ثانٍ، سيُعرض هو الآخر ضمن «نظر ما»، وهو «في انتظار السنونوات» للجزائري كريم موساوي (ينافس أيضاً على «الكاميرا الذهبية»، لكونه العمل الأول لمخرجه)، برزت بوادر هذا الربيع السينمائي العربي أيضاً في التظاهرات الموازية، من خلال العمل الجماعي الذي أنجز في «أسبوعي المخرجين»، ضمن مشروع «فاكتوري لبنان». سُنَّ هذا التقليد عام 2012، على شكل محترف سينمائي يُعنى بإنجاز عمل جماعي يتكون من أربعة أفلام قصيرة عن بلد معين، يُسند إخراجها بالتشارك إلى 4 مخرجين محليين و4 سينمائيين قادمين من مختلف مناطق العالم. تشكل الرؤى المتقاطعة لكل هؤلاء «بورتريه» جماعياً للبلد المعني. في «فاكتوري لبنان»، تشارَك أحمد غصين مع الفرنسية لوسيه لاشينيا لإخراج «تشويش»، بينما تقاسمت شيرين أبو شقرا إخراج «أوتيل النعيم» مع السويسري مانويل ألميريدا، واشترك رامي قديح مع البوسنية أونا غونجاك في تقديم «سلامات من ألمانيا»، بينما حمل الفيلم الرابع El Gran Libano توقيع مونيا عقل والكوستاريكي إرنستو فيلابولوس.
الميزة الأساسية لهذه الأفلام الأربعة أنها طرحت جانباً النظرة الاستشراقية إلى سحر لبنان، بوصفه «سويسرا الشرق»، لتغوص عميقاً في التناقضات الفاقعة للراهن اللبناني، بداية من سطوة عصابات الإجرام، التي تسرق أمن البلد وأهله (تشويش)، وصولاً إلى الكارثة البيئية التي تهدد طبيعة لبنان الساحرة، بسبب الجشع المالي والسياسي في El Gran Libano، الذي تميز إلى جانب خطابه البيئي بتأثيرات أسلوبية قوية من المعلم البوسني أمير كوستوريتسا، مروراً بجشع كبريات شركات البناء، التي باتت أخطبوطاً يهدد الهوية العمرانية للبلد (أوتيل النعيم)... من دون أن ننسى، بالطبع، سمّ الطائفية الذي يتجرع مرارته بطل «سلامات من ألمانيا»، وهو شاب لبناني يقوم بتزوير جواز سوري، أملاً في استعماله للهجرة إلى ألمانيا بصفة لاجئ، وإذا به يقع بين أيدي دورية أمن (ميليشيا؟) تسلط عليه كل الحقد العنصري والعنف الطائفي الذي بات القوت اليومي لملايين اللاجئين السوريين في لبنان. أهلاً بكم في «سويسرا الشرق» (سابقاً)!
عثمان...