أي «عقل» ذاك الذي قرّر «حبس» مدينة كبعلبك خلف «بوابة» على مدخلها الجنوبي؟ مدينة الإرث الإنساني الموغلة في القدم والعراقة محكوم على زائرها أن يدخلها من تحت قوس حجري حديث، كئيب ومرتجل! لِمَ أُقيم في تلك النقطة تحديداً؟ لا أحد يَعلم.
بوابات المدن القديمة، كالقدس ودمشق ومراكش وغيرها، معروفة منذ قرون. ويُحافَظ عليها كإرث حضاري... لكن أن يُقام شيء مِن لا شيء، وبنحو مسيء، فهذا مما يبعث على السخرية المرّة. مدينة كهذه، من بديهيات عمل سلطتها المحلية، أن تمنع وضع «حجر على حجر» فيها إلا بعد دراسة متأنّية. ولكن يبدو أن الحفاظ على التاريخ أهم من أن يُترك لسلطات محلية يغيب عنها أصحاب الاختصاص والرؤى.

في الطريق إلى مدينة الهرمل، في أقصى البقاع الشمالي، يمكن الزائر التمتع بطبيعة صحراوية تشبه تلك التي نشاهدها في أفلام الـ «وسترن» الأميركية. هنا، أيضاً، هناك من قرّر «إلزام» الناس بالمرور من تحت «قوس نصر» يبدو، رغم ضخامته، هزيلاً إذا ما قورن باتساع الأفق حوله. «عقل» آخر قرّر أن «يسجن» بلدة شمسطار البقاعية خلف «بوابة»، مستلهماً «هندستها» من المسلسل الشامي «باب الحارة». قرية رابعة بنت بلديّتها، عند مدخلها، «شيئاً» على شكل قلعة على الطراز المعماري للحقبة الصليبيّة. لِم هذا الطراز أساساً؟ لا أحد يَعلم. على الأرجح، أن أحد المعنيين رآه في صورة ما. بلدة مكسة، على طريق شتورا الدولية، قررت بلديتها، هي الأخرى، نصب قوس حجري أشبه ما يكون بتلك التي يبنيها ميسورو القرى على بوابات منازلهم.
من يقرّر ذلك؟ يكفي أن تخطر الفكرة في بال عضو بلديّة، فيتفاعل عضو آخر معها، مع بعض الضجيج، ثمّ يولد «المشروع» الذي يكلف غالباً مئات آلاف الدولارات. ماذا عن الخصوصيّات العمرانيّة والثقافيّة؟ يضحك مهندس كان عضواً في بلدية إحدى البلدات، ويسأل: «مِن أيّ خلفيّة ثقافيّة، أصلاً، يأتي رؤساء البلديّات والأعضاء؟ أيّ بلديّة لديها هذا الاهتمام أو الإلمام؟».
هذه «الأشياء» التي غزت، على مدى العقد الماضي، مداخل كثير مِن القرى اللبنانية، خصوصاً في الجنوب والبقاع، «سيّئة ومُسيئة». يقولها، بوضوح، المعمار رهيف فياض. وهو، لمن لا يعرفه، ممن لا يُجيدون «هندسة التبخير». ويوضح: «في الجنوب والبقاع هناك ذاكرة تتحدّث عن النصر. المطلوب أن يبقى الناس متعلّقين بالمقاومة، وهي الرائدة عربيّاً، إنّما أسلوب التعبير عن ذلك بهذه الأشغال، مِن الناحية الجماليّة، فضلاً عن جوانب أخرى، سيئ جداً». ويلفت إلى أن أصل هذه الفكرة جاء مِن الفتوحات في زمن الإغريق والرومان والفرس وغيرهم، وبالتالي أقواس النصر مرتبطة بسياقات تاريخية وجغرافيّة محدّدة. «القيمة في الهندسة الكلاسيكيّة الماضية كانت جماليّة. أما الآن، عندنا، فهي ارتجال شعبي من أشخاص ليست لديهم أيّ ثقافة مدينيّة. الذهنيّة الريفيّة لا تنفع هنا. الثقافة المعماريّة غائبة عندنا، بل قل إنّ الثقافة البصريّة (الجماليّة) غير موجودة».
المشهد في الجنوب لا يختلف عن البقاع. قبل نحو أربع سنوات، كان الحديث عن نحو ثلاثة مليارات ليرة تقريباً دفعتها البلديّات لبناء «أقواس» في بعض القرى. ليست المشكلة في هدر المال فقط. قبل ستّ سنوات حطّمت عاصفة «قوس النصر» عند مدخل قرية العباسيّة. أقواس النصر الرومانيّة في شمال أفريقيّا، مثلاً، القائمة منذ نحو ألفي عام، تستقبل كلّ عام كلّ أنواع العواصف بـ «رحابة صخر». تلك أقواس نصر حقّاً. قبل أربع سنوات، أيضاً، انهار «قوس» عند مدخل قرية المنصوري الجنوبية، لكن مِن غير عاصفة هذه المرّة. مرّت الحادثتان مِن دون ضحايا. مَن يُمكنه أن يقول للبلديّة، أيّ بلديّة، إنّها لم تفعل شيئاً للناس؟

مدينة كبعلبك، من بديهيات عمل سلطتها المحلية أن تمنع وضع «حجر على حجر» فيها إلا بعد دراسة متأنّية


يشرح فيّاض بتفصيل: «بعيداً عن الشكليّات، الأقواس التي تفرّخ في القرى مسيئة إلى مفهوم التنظيم. فهي تُقام في أماكن غير صالحة لوجودها. اختيار أمكنتها عشوائي. خذ مثلاً مدينة باريس، هناك محور عمراني يبدأ مِن نقطة أثريّة معيّنة، فيمرّ بأخرى، ليصل إلى قوس النصر الشهير. هذا المحور يرسم حيّزاً مكانيّاً له علاقة باختراع المدينة. إنّه خطّ مستقيم يحكي نصراً ليس في نقطة واحدة. ليس عشوائيّاً». قد يقول البعض إنّ الأمر لا يحتاج إلى تضخيم وإثارة، فهموم الناس في مكان آخر، ونحن في منطقة متفجّرة لا أحد يضمن فيها الاستقرار. هذا صحيح، حسناً، فليُكتفَ باللافتات الزرقاء عند مداخل القرى. هكذا يكون الأمر أوفر على «الجيبة» (جيبة الناس في النهاية) وأسلم للنظر، وأيضاً بعيداً عن «البهدلة». علماً أنّ المبادرين في البلديّات، بسذاجة، إلى مشاريع كهذه، ليسوا مِمن لا ينامون لأنّ قضيّة الشرق الأوسط تشغل بالهم. فليقوموا بالمفيد بلا عراضات مسيئة. المسألة أعمق مِن مجرّد أزمة شكليّة في بناء أقواس نصر وبوابات قرى. إنّها إشارة إلى منحى الذائقة العامة عند المعنيين بحياة الناس وعمارتهم. مؤشر على عقليّة نمطيّة تتعاطى مع كلّ شيء وفق تلك الذائقة الرعناء. لفتة إلى غياب مبدأ التخصص لمصلحة الفوضى.
يرفض فيّاض أن نجد لهم عذراً، ويرفض التسامح مع إساءات كهذه، لكنّه يحاول تفكيك المشكلة بعد محاولة فهمها، فيقول: «نحن لا ننشأ على الثقاقة المعماريّة الجماليّة. لا يُربوننا عليها. لهذا لا تنشأ عندنا ذائقة بصريّة هندسيّة. خذ المدارس مثلاً. تُدرّس أحياناً الرسم والموسيقى، وهذا جيّد ومطلوب لصقل أحاسيس الطالب وإعداده للمستقبل، لكنها، للأسف، لا تدرّسهم العمارة أبداً. هذه غائبة عن منظومتنا التعليميّة حتّى بالمعنى التبسيطي. كارثة أن لا تعرف الأجيال شيئاً عن العمارة التي يعيشون فيها وتعيش فيهم. العمارة جزء مِن حياتنا اليوميّة. جزء منّا. عندما يكبر أولئك الأطفال يمرّون جنب العمارة دون ملاحظتها. إنّهم لا يرونها».