نود هنا لفت نظر متسولي فتات دعم الغرب الاستعماري لقضايانا الملحة، وآخرها قضية الأسرى الأبطال في سجون العدو، إلى حقيقة مرعبة من حقائق الحرب العالمية الثانية لتتخذ عبرة لمن يبحث عن النصر.
الحقيقة البشعة تتعلق بأسرى الحرب من الألمان على الجبهة الغربية التي كانت بإمرة الجنرال الأميركي، دوايت آيزنهاور، ورئيس الولايات المتحدة لاحقاً، ومصير مئات الآلاف منهم الذين وقعوا في أسرها.
الحقيقة التاريخية تقول إن أكثر من خمسة ملايين جندي ألماني، معظهم فر من الجبهة الشرقية، استسلموا للقوات الأميركية بقيادة آيزنهاور، الذي استمر في استقبال أسرى حرب حتى بعد استسلام ألمانيا غير المشروط في التاسع من أيار 1945، وضد أوامر القيادة العليا في واشنطن بالتوقف عن ذلك. مئات آلاف الجنود الألمان المستسلمين، قبل ذلك التاريخ وبعده، تحولوا إلى ضحايا سادية غير مسبوقة عادة ما يقال إن النازيين احتكروها. فالجنرال آيزنهاور أمر بإلقائهم في حقول مكشوفة محاطة بأسلاك شائكة، مانعاً عنهم المأكل والمشرب والمأوى والدواء والملبس. ولأن هذا التصرف الهمجي السادي يتناقض مع اتفاقيات جنيف بخصوص الحروب، بخاصة المتعلقة بحق الصليب الأحمر الدولي بزيارتهم وتقديم المساعدات الإنسانية لهم، لجأ آيزنهاور إلى استحداث توصيف خسيس، كثيراً ما يلجأ إليه العدو الصهيوني عند وصف الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وأراضينا في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 وعند وصف أسرانا.

معاناة أسرانا في سجون
العدو ما هي إلا أحد تجليات
معاناتنا الوطنية في وطننا

الجنرال آيزنهاور أصدر وقتها أمراً بإلغاء صفة الأسرى عن هؤلاء الملايين والتقيد بوصف استحدثه هو (قوات العدو المجردة من السلاح/ Disarmed Enemy Forces - DEF)، ليمنع عنهم حتى الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية التي تكفلها القوانين الدولية وقوانين الحروب، ويدفع مسؤولية رعايتهم عن آسريهم.
بل إن الاستهتار والوقاحة وصلا به لمطالبة ألمانيا، المهزومة والمستسلمة، برعايتهم، لكنه في الوقت نفسه منع أي طرف، بما في ذلك الصحافة، من دخول المعسكر الذي عرف باسم راينفِيزِنْلاغر (Rheinwiesenlager) الذي كان بإدارة أميركية وفرنسية ذيلية.
أكثر من هذا، ومع أن الجنرال طالب المدنيين الألمان بتوفير المأكل والمشرب والملبس والدواء للأسرى (اللاأسرى!)، أصدر أمراً بقتل (إعدام) أي فرد أو جماعة تحاول تقديم المساعدة لهم! وعندما ضُبط أحد حراس معسكر الاعتقال الأميركي وهو يقدم خبز لـ(اللاأسرى!) تلقى إنذاراً من رئيسه بأن تصرفه مخالف للأوامر التي تمنع تقديم أي شيء لهم، وأنه سيكون عرضة لتنفيذ حكم القتل رمياً بالرصاص في حال تكرارها (الجريمة).
النتيجة هي المتوقع. مات مئات آلاف الأسرى الألمان تضوراً وعطشاً وبسبب الأمراض الناتجة من الأوبئة التي انتشرت في معسكرات الاعتقال، بسبب انعدام أي صرف صحي فيها. وتقرير الحكومة الألمانية الغربية عن الأسرى الألمان الصادر عام 1950 في 24 مجلداً يوحي بأن عدد المفقودين في معسكر الاعتقال يبلغ نحو مليون ونصف مليون روح بشرية.
تفاصيل هذه المذبحة وغيرها من الحقائق المرعبة المحيطة بها نعثر عليها في مؤلف صدر عام 1989 للمؤرخ والصحفي الكندي جيمس باك الذي بيع منه نحو نصف مليون نسخة وترجم إلى 13 لغة، لكنه غير متوافر في الولايات المتحدة.
ما إن صدر المؤلَّف حتى تحرك مؤرخو «السلطان» للتصدي لمحتواه ومحاولة تفنيد الحقائق التي يحويها، والمستقاة أصلاً من محفوظات الإدارة الأميركية المفرج عن سريتها إضافة إلى أقوال شهود عيان.
مؤرخو السلطان الأميركي هرولوا للدفاع عن رئيسهم وسمعته ومن ضمنهم (كبيرهم، الذي علمهم السحر)، واسمه ستفن أمبروز الذي عينه آيزنهاور مؤرخاً رسمياً له (كذا!).
لكن مؤرخين آخرين رفضوا الطعن في صحة المعلومات الواردة في مؤلف جيمس باك، ومن ضمنهم الكولونيل إرنست فِشَر الذي كان المؤرخ الرسمي لـ(مركز التاريخ العسكري لجيش الولايات المتحدة/United States Army Center of Military History) وكان منخرطاً عام 1945 في تقصي سوء سلوك القوات الأميركية في ألمانيا.
الكولونيل فِشَر أكد صحة المعلومات الواردة في المؤلف. ما يخص العدد الحقيقي لضحايا معسكرات الموت الأميركية في ألمانيا، ثمة تقارير عسكرية أميركية رسمية تقول إن قيادة الجبهة ادعت أنها أسرت 3,700,000 ثلاثة ملايين وسبعمئة ألف جندي ألماني، بينما عدد الأسرى الحقيقي لديها كان 5,224,000 خمسة ملايين ومئتين وأربع وعشرين ألف جندي. أي إن نحو مليون ونصف مليون جندي ألماني قضوا جوعاً ومرضاً وعطشاً في معسكرات الاعتقال الأميركية.
من ضمن النقاط المرتبطة بالمادة التي يستحضرها مؤرخو السلطان لتسويغ عدم تزويد الأسرى بالمأكل، ادعاؤهم بأن أوروبا كانت تعاني نقصاً في الغداء ما منع القوات الأميركية من توفير المأكل للأسرى. لكن الحقيقة يُعثر عليها في محفوظات الصليب الأحمر الدولي، التي تقول إنه عندما بادر الأخير إلى إرسال قطاراً محمَّلاً بالقمح للأسرى الألمان، رفضت قيادة آيزنهاور تسلمها بدعوى أن مخازنها مليئة.
أكثر من هذا، لقد عُثر في مخازن قوات الاحتلال الأميركية في ألمانيا على نحو 15,000,000 خمسة عشر مليون طرد أغذية، قدمها الصليب الأحمر الدولي لم تُوزَّع على المحتاجين إليها من الألمان.
ملخص القول: إنَّ القيادة العسكرية الأميركية مارست مذبحة حقيقية بحق أكثر من مليون أسير ألماني، ثم عملت الإدارات الأميركية المتعاقبة، وكذلك حلفاؤها الذيليين، وفي مقدمتهم بريطانيا وفرنسا على التستر عليها. بل إن الأخيرة طالبت بربع مليون أسير ألماني لتشغيلهم سخرةً، وكان لها ما طلبته. بريطانيا من جانبها مارست الأمر ذاته، حيث ابتدعت وصف (أفراد العدو المستسلمين/Surrendered Enemy Personnel, (SEP)) في تقليد ذيلي لآيزنهاور بهدف رفع صفة الأسر عن الجنود الألمان (يضاف إلى ذلك أنها كانت تدير مركزاً سرياً للغاية في لندن لتعذيب الأسرى الألمان، وظل الأمر سرياً إلى تاريخ قريب).
ثم يملكون الوقاحة للحديث عن الظروف اللاإنسانية في معسكرات الاعتقال الستالينية والسوفياتية والنازية! المجرم لا يملك الحق القانوني أو الأخلاقي لإدانة غيره من المجرمين لدفع الشبهة عن نفسه. لنتذكر أن هذه الجرائم المروعة ارتكبها الغرب الاستعماري، ليس بحق الشعوب من ذوي البشرة الملونة، الذين لا يعدهم من البشر، بل بحق بشر أوروبيين شكلوا القسم الأكبر من أجداد سكان المهاجرين إلى القارة الأميركية.
أما المؤلف الذي تناول جريمة القوات الأميركية المروعة بحق ملايين البشر العزَّل فهو (خسائر أخرى/Other Losses). الكاتب يقول إنه استقى عنوان مؤلفه من تسمية رسمية ترد في وثائق القوات المسلحة الأميركية التي تتحدث عن عديد خسائر الجيش الألماني، والمقصود هنا طبعاً الذين ماتوا تضوراً وعطشاً ومرضاً في معسكرات الاعتقال الأميركية بقيادة الجنرال آيزنهاور وقياداته الذين فتحت الحرب شهيتهم للانتقام الدموي من ألمانيا والأبرياء العزل من الألمان.
فهل يمكن ترجي أي خير من دول مارست هذه الجرائم بحق مئات الآلاف من الأسرى؟!
بالعودة إلى نضال أسرانا الأبطال، فإننا نشدد على تضامننا اللامحدود معهم، وندعم الطريق الذي اختاروه لتحقيق مطالبهم التي تكفلها المواثيق الدولية كافة. في الوقت نفسه، نشدد على أن معاناة أسرانا في سجون العدو ما هي إلا أحد تجليات معاناتنا الوطنية في وطننا، الرقم غير قابل للقسمة. فلتكن ذكرى احتلال فلسطين وذكرى انتصار المقاومة في لبنان فاتحة لإعادة النظر في السياسات الانبطاحية والذيلية التي اتبعتها قيادات العمل السياسي الفلسطيني منذ أن استبدلت البترودولار بالدعم الشعبي الوطني والقومي.
لنتعلم من تجارب الشعوب المناضلة ومن حركات المقاومة التي أثبتت بالفعل لا بالفهلوات والديماغوجية إمكانية ملموسة لدحر العدو وهزيمته، وفي المقدمة منها مناضلو حزب الله اللبناني من مقاتلين وقيادات الذين شكلوا بنضالاتهم منارة لمن يبحث عن الضوء في آخر النفق، هادية لمن يبحث عن النصر، كي لا نكون من الذين ضلوا في الطريق المعبد.
أخيراً، فلنتذكر حقيقة ثبتت صحته للمرة الألف أن لا خير يأتي من واشنطن وأذنابها الغربيين والأعراب.