لعلّ هذه هي المرّة الأولى التي تفرض فيها المسائل الخاصة بالأقليات العرقية والدينية نفسها بشكل ملحوظ على الانتخابات الرئاسية في إيران. تلك الظاهرة يمكن الاستدلال عليها من خلال النقاشات العلنية – النادرة – حول حقوق المكوّنات الاجتماعية في إيران، والتي اتخذت في بعض الأحيان طابعاً حاداً، في خطابات المرشحين ومناظراتهم، وعبر كتّاب المقالات المقرّبين من التيار الإصلاحي والمحافظ على حد سواء، وهو ما دفع بالمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، إلى التدخّل محذّراً من سوء استخدام هذا الملف الدقيق في الدعاية الانتخابية.

ومن الواضح أن الحضور اللافت للانتباه للأقليات في الانتخابات الحالية، يندرج في سياق احتدام المعركة نفسها، وخصوصاً أن الكل قرأ تفاصيل الجولة الرئاسية الماضية، حين أشارت معلومات إلى أن بعض المكوّنات المذهبية والعرقية – كالسنّة على سبيل المثال – هي من حسمت بأصواتها السباق الرئاسي لمصلحة الرئيس الإصلاحي حسن روحاني، ولا سيما في المناطق الحدودية، التي حقق فيها نتائج مبهرة.

حذّر خامنئي المرشّحين
من التطرّق إلى القضايا
الطائفيّة والعرقيّة

واستناداً إلى ما سبق، كان طبيعياً أن يزاحم المرشّح المحافظ ابراهيم رئيسي غريمه الإصلاحي على التقرّب من المجموعات الطائفية والعرقية المختلفة، وأن يعمل على التودّد أكثر تجاه تلك الأقليّات، أملاً في الحفاظ على كتلة تصويتية وازنة، وهو ما أجّج الجدال بين التيارين اللدودين إزاء تلك المسألة، التي لا شك أنها تثير قلق المرشد على وجه الخصوص، بالنظر إلى حساسيتها في شرق أوسط مضطرب من جهة، وفي ظل القلق الدائم من احتمال أن تنفذ القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، من هذا الباب، لتقويض إيران من الداخل، في إطار «الحرب الناعمة» التي بشّر بها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، ووزير خارجيته جون كيري، بعد توقيع الاتفاق النووي.
وانطلاقاً من ذلك، كان لافتاً دخول خامنئي على خط الجدال، بدعوته المرشحين كافة إلى الحذر في التطرّق إلى القضايا الطائفية والعرقية، من دون أن تنجح تلك التحذيرات الواضحة في تبريد النقاشات، التي دارت بشكل خاص حول السياسة التي انتهجها روحاني خلال سنوات حكمه الأربع في تحسين وضع الاقليات، ولا سيما مشاركتهم في الحياة السياسية، والتي تتراوح الآراء حولها بين قائل بأن الرئيس الإصلاحي أخفق في تحقيق وعود قطعها خلال حملته الانتخابية السابقة، وبين من يتّهمه بانتهاج سياسات مناقضة لمبادئ الجمهورية الإسلامية في هذا الخصوص.
وفي الواقع، فإن روحاني تمكّن إلى حد ما من تعزيز وضع الأقليات في النظام السياسي الإيراني، برغم القيود التي فرضتها عليه مراكز القوى في الجمهورية الإسلامية، والمعارضة التي يبديها المرشد الأعلى بأشكال عدّة، لمقاربته تجاه هذه القضية الحساسة.
ولعلّ أبرز ما حققه روحاني في هذا السياق، هو تعيين نائب للرئيس لشؤون الأقليات، هو ابراهيم يونسي، القادم من وزارة الاستخبارات في عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي، والذي بذل جهوداً كبيرة في التواصل مع المكوّنات الطائفية والعرقية في المجتمع الإيراني، أثمرت بعضاً من النتائج، على مستوى التعليم، وبعض التعيينات في المناصب الإدارية والدبلوماسية.
ومع ذلك، فإن المحافظين يرون أن سياسات روحاني، المدفوعة بشعار «الانفتاح»، أدت في الواقع إلى تخفيف القبضة التي تمارسها الحكومة المركزية على الأطراف، ما أفسح المجال لاضطرابات، تخطت السياق التقليدي، لتبرز معها بضع عمليات إرهابية لتنظيم «داعش»، الذي يبحث عن أي ثغرة للنفاذ إلى إيران، وخصوصاً في البيئات السنّية التي تعاني تمييزاً اجتماعياً واقتصادياً متعدد الأشكال... والأسباب.
ويدرك الجميع، بمن فيهم المرشد الأعلى، أن هذا الملف لا بد من أن يقارب بشكل دقيق، بالنظر إلى التنوّع «الموازييكي» للمجتمع الإيراني، والذي لا يقتصر على الثنائية الشيعية – السنية، التي غالباً ما يركّز عليها الإعلام الغربي، والدعاية السياسية للأنظمة الخليجية، ولا حتى على القضية الكردية أو البلوشستانية... الخ.
وبحكم تاريخها الإمبراطوري، ورثت إيران مجتمعاً إثنياً متنوّعاً، يحتل فيه الفرس الغالبية المطلقة. ويليهم مباشرة الأذريون، الذين يمثلون 14 في المئة من السكان، وهم من الشيعة الناطقين باللهجة التركية، ويقطنون المناطق الشمالية الممتدة من أذربيجان وأرمينيا، وصولاً إلى غربي طهران (تبريز، أوروميه، أردابيل وزاندجان)، ويعدّون الأكثر تمسّكاً بقوميتهم، برغم اندماجهم التاريخي بالمجتمع الإيراني ودوائر الحكم.
ومن ثم يأتي الأكراد، الذين يشكلون نسبة 9 في المئة من السكان، ومعظمهم من السنة، ويقيمون في المناطق الشمالية الغربية المحاذية لتركيا والعراق وأرمينيا (ماهاباد، سنانداج وكرمانشاه)، ويميلون أكثر إلى النزعة الاستقلالية، ولا سيما بعد التحوّلات التي جرت في دول الجوار، مع بروز ما بات يعرف بـ«الربيع الكردي».
وأمّا البلوش، فنسبتهم إلى إجمالي سكان إيران تقارب 2.5 في المئة، وهم من السنة، ويعيشون في المناطق المحاذية للحدود مع باكستان وأفغانتسان، ويعدّون الأقلية الأكثر تهميشاً وفقراً في البلاد، وهو ما جعل مناطقهم تربة خصبة لتسلل الخلايا الجهادية المرتبطة بـ«القاعدة» و«طالبان».
وأما العرب فيشكلون ما نسبته 2 في المئة من سكان إيران، وهم بغالبيتهم من الشيعة، ويتمركزون في منطقة الأحواز المحاذية للحدود مع العراق جنوباً. وبالرغم من أن منطقتهم مليئة بالثروات النفطية، إلا أن أوضاعهم الاقتصادية ــ الاجتماعية بالغة السوء.
وعلى المستوى الديني، فإن الشيعة يشكلون حوالى 80 في المئة من إجمالي عدد سكان إيران البالغ 80 مليون نسمة، ويليهم السنة والصوفيون بحوالى 18 بالمئة، وهم يتوزعون بين أقليات إثنية متعددة، ثم الأقليات الأخرى، بنحو اثنين في المئة، وأبرزهم المسيحيون (الأرمن على وجه الخصوص) الذين يصل تعدادهم إلى نحو 250 ألفاً، واليهود البالغ تعدادهم 20 ألفاً، بينهم 15 ألفاً في طهران وحدها.
وبالرغم من اضطرار الأقليات الدينية إلى الالتزام بالقواعد الإسلامية بعد الثورة، إلا أنها تتمتع بحق الحفاظ على دينها ولغتها وممارسة شعائرها الدينية، في إطار القوانين، كما أنها ممثلة بمقاعد في مجلس الشورى (البرلمان). ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الأقلية السنية، التي يشكو أئمتها دوماً من «مضايقات» المحافظين.
ولعلّ ما سبق يشي بأن مصدر القلق الدائم إزاء مسألة الأقليات في إيران يرتبط بمستويين أساسيين، الأول إثني، في ظل التعقيدات السياسية والاقتصادية ــ الاجتماعية التي تتسم بها المناطق الحدودية، كامتداد للعلاقة الشائكة في بعض الدول بين المركز والأطراف؛ والثاني مذهبي، في ظل أجواء الشحن السني ــ الشيعي على امتداد الشرق الأوسط... وكل ذلك يجعل السياسات المرتبطة بالأقليات تتسم بحذر شديد.
والواقع أن سبب الحذر في مقاربة مسألة الأقليات، بمستوييها الإثني والمذهبي، في إيران ينبع من ذكريات الأعوام الأولى للثورة الإسلامية في أواخر السبعينيات، حين اندلعت انتفاضات مسلحة في مناطق ذات غالبية كردية وبلوشية وعربية وأذرية وتركمانية وبلوشية، والتي يعتقد كثيرون أن احتمالات تجددها تبقى قائمة لأسباب عدّة، لعلّ أبرزها الأوضاع الاقتصادية السيئة، التي توفر التربة الخصبة لنمو بعض الحركات ذات الطابع الإثني، أو حتى المذهبي.
ولكن التقديرات تشير إلى ما قد يكون أخطر، في حال عدم معالجة ملف الأقليات بشكل حكيم، وخصوصاً أن تقارير إعلامية واستخبارية تفيد بنشاط مكثف تمارسه بعض الجهات الأكثر تطرفاً على المستويين الإثني والمذهبي، وهو أمر يبقى مرتبطاً على قدرة روحاني أو رئيسي ـــ باعتبارهما المرشحين الأوفر حظاً للفوز بالرئاسة ـــ في تحسين الاقتصاد الكلي للبلاد من جهة، واستثمار هذا التحسّن المأمول، في توزيع الثروة بشكل عادل على امتداد المحافظات الإيرانية، مع الأخذ في الحسبان المناطق الأكثر تهميشاً وحرماناً.
انطلاقاً من ذلك، يبدو الرئيس حسن روحاني المرشح الأكثر تفضيلاً من جانب الأقليات في إيران، بالنظر إلى الجهود التي بذلها لحل الكثير من المشاكل المرتبطة بهذا الملف ـــ ولو أخفق في الكثير منها ـــ ومع ذلك فإن التحركات الأخيرة للمرشح إبراهيم رئيسي، ولا سيما الزيارات التي قام بها لمدن محسوبة على الأكراد والسنّة والعرب، قد تكون مؤشراً على رغبة المحافظين في الانفتاح أكثر على هذا الملف الشائك.