كان | تصدّرت عروض اليوم الثاني من «مهرجان كان» الـ 70 مواجهة فكرية وأسلوبية مفتوحة بين عملاقين من كبار صناع الفن السابع، هما: تود هاينز وأندريه زفياغينتسيف.
لم تقتصر هذه المواجهة على انتماء هذين المخرجين إلى دولتين عظيمتين متصارعتين (الولايات المتحدة وروسيا)، بل امتدت أيضاً إلى التيمة المشتركة التي تصديا لها في عمليهما: الطفولة المعذبة التي تعاني التمزق العائلي على خلفية تفكك البنى السوسيولوجيّة التقليدية تحت معول الليبرالية الساعية لتكريس المجتمع الاستهلاكي كنمط حياة مهمين، في نيويورك الثمانينيات بالنسبة الى هاينز، وفي موسكو الألفية الجديدة بالنسبة إلى «زفيا»، كما بات يلقب المعلم الروسي، اختصاراً لاسمه المستعصي على النطق!
تجمع بين هاينز و«زفيا» سمات تقارب عدّة. كلاهما سينمائيان مقلان. فـ «خزانة العجائب» يعدّ ثامن عمل روائي لهاينز، منذ باكورته «السم» (عن سيرة جان جينيه)، التي افتكت الجائزة الأولى في مهرجان «ساندانس»، عام 1991، بينما يمثل «بلا حب» خامس أعمال زفياغينتسيف، الذي سطع نجمه عام 2003 بـ «العودة» الذي خطف «الأسد الذهبي» في مهرجان البندقية.
منذ أن حط الرحال، للمرّة الأولى، على الكروازيت بعمله الثاني «منجم الذهب الحريري» (1998)، لمس النقاد لدى هاينز تأثيرات أسلوبية قوية من وحش السينما الأميركية، أورسن ويلز. أما «زفيا»، فقد وجد فيه جمهور الكروازيت، عند اكتشافه من خلال فيلمه الثاني المبهر «النفي» (عام 2007)، وريثاً لمدرسة الشكلانيين الروس العريقة.
في عمليهما اللذين ينافسان على السعفة الذهبية هذه السنة، قدّم المعلمان الأميركي والروسي المرافعة الفكرية ذاتها ضد تسليع العالم وتنميط حياة الناس وفق ما تقتضيه المنافسة الليبرالية المسعورة. لكن كل واحد منهما، سلك منحى مغايراً على صعيد الأسلوب.
«زفيا» وُفَّق في طرق باب التراجيديا بامتياز، بينما وقع هاينز في فخ الميلودراما. تباين انعكس أسلوبياً في المنحى التشكيلي الساحر لدى المعلم الروسي، الذي أمعن ــ كعادته ــ في التلاعب بالإضاءة، جاعلاً شخوصه تتقلب باستمرار بين ثلاثية الظل والضوء والعتمة. في مقابل منحى أكثر كلاسيكية لدى هاينز، الذي أقام لعبة مرايا تقليدية بين الحقبة النيويوركية الذهبية، في الثلاثينيات، من خلال مشاهد صورها بالأبيض والأسود، وبين حقبة الهجمة الليبرالية في الثمانينيات، التي صوّرها بالألوان.
هذان الخياران الأسلوبيان المتباعدان ألقيا بظلالهما أيضاً (حتماً؟) على البنية السردية للفيلمين. روح التراجيديا لدى «زفيا»، جعلته يزج ببطله الطفل ضحية التمزّق العائلي نحو مصير دموي، حيث انتهى قتيلاً (أو منتحراً؟)، مرمياً في البحيرة التي شكّلت مرابع صباه. لم يفلت هاينز من تقليد الـ Happy End الهوليوودي، مما زجّ به في الشطط الميلودرامي، من خلال سلسلة من المصادفات والاكتشافات التي تقود بطله الطفل، الذي يعاني بدوره من التمزّق العائلي، إلى التعرّف إلى سيدة يتبيّن لاحقاً أنّها جدته!
آراء النقاد تباينت في ترجيح الكفة بين المعلمين. لكن ما لا اختلاف عليه أنّ عمليهما نجحا في وضع سينما المؤلف في صدارة الكروازيت، منذ العروض الرسمية الأولى لهذه الدورة.
على صعيد المشاركات العربية، هذه السنة، عُرض ظهر أمس في افتتاح تظاهرة «أسبوعي المخرجين» مشروع «فاكتوري لبنان»، الذي تضمّن أربعة أفلام قصيرة تم تصويرها في بلاد الأرز، مشاركة بين ثمانية مخرجين (أربعة لبنانيين وأربعة أجانب).
انطلق هذا التقليد، منذ العام 2012، ضمن «أسبوعي المخرجين»، الذي يعد المحترف الذي تخرجت منه، على مدى نصف قرن، أجيال متتالية من كبار صنّاع السينما. تتمثل فكرة الـ «فاكتوري» في تخصيص مجموعة من الأفلام لبلد معين يتم إخراجها بالتزامن بين مخرجين محليين وآخرين قادمين من مختلف مناطق العالم.
بعد جنوب افريقيا العام الماضي، خُصّص «محترف» هذه السنة للبنان، عبر أربعة أفلام. تشارَك أحمد غصين مع الفرنسية لوسيه لاشينيا في إخراج «تشويش»، بينما تقاسمت شيرين أبو شقرا إخراج «أوتيل النعيم» مع السويسري مانويل ألميريدا، واشترك رامي قديح مع البوسنية أونا غونجاك لتقديم «سلامات من ألمانيا»، وحمل الفيلم الرابع El Gran Libano توقيع مونيا عقل والكوستاريكي إرنستو فيلابولوس.
وستكون لنا عودة تفصيلية، يوم الإثنين المقبل، إلى هذا المشروع المميّز، ضمن جردة الحساب التي سنخصّصها لأهم فعاليات الأسبوع الأوّل من «كان» الـ 70.