تتوالى جولات مؤتمر جنيف ولقاءات آستانة في مناخ يسوده تباين روسي ـ إيراني/ سوري، وتناقض أميركي ـ إيراني، والتباس إشكالي في طبيعة العلاقة والمصالح بين القطبين الروسي والأميركي. يضاف إلى ذلك تباعد ظاهري بين أنقرة وواشنطن. ومعلومٌ أن التدخل التركي والأميركي المباشر على خط الصراع في سوريا، يُنذر بتحولات جيوسياسة لا تقلّ خطورة عن تداعيات التدخل الإيراني والروسي.
من جانب مختلف لم تنجح المعارضة السورية حتى اللحظة في تجاوز الضعف والترهل والارتهان المسيطر على أوضاعها، إضافة إلى كونها تتشظى بوتيرة متسارعة، لدرجة باتت مهددة بفقدان هويتها السورية. فتحالفاتها تُفرض عليها، أما قراراتها فلم تعد تتحدد على أساس المعطيات والأهداف الوطنية، وميولها تحددها طبيعة علاقاتها الدولية والإقليمية ومصالح الدول المتصارعة في سوريا وعليها، إضافة إلى تفاقم المصالح الشخصية لبعض من قياداتها. يضاف إلى ذلك عدم قيامها بما يجب لتمكين وحدتها أو تحالفاتها البينية على أهداف ورؤى استراتيجية. وجميعها أسباب تساهم في تباين مواقفها السياسية، وفي تعميق التناقضات واتساع الفجوة بين مكوناتها، وبين المجتمع السوري، وتهدد التماسك الجيو سياسي المرتبط أساساً بتداخل الصراع، ووصوله إلى درجة من الوظيفية والعبثية والعدمية قاتلة.

ما زالت أهداف منصات الحوار الداخلية غير واضحة


وبرغم تمسك أطراف دولية وأخرى إقليمية بمخرجات جنيف وآستانة السياسية والعسكرية على التوالي. فإن ما سبق ذكره يكشف عن استمرار التباس المشهد السوري. هذا في لحظة يبدو فيها أن الصراع يميل إلى مزيد من التعقيد والتداخل. وجميعها، إضافة إلى فقدان السوريين لدورهم في اختيار شكل دولتهم المستقبلية وطبيعة الحكم السياسية، عوامل تفاقم من شعورهم بالمرارة والإحباط، وتزيد من مخاطر الحاضر ومأساوية المستقبل.
في السياق ذاته، تتحول منصات المعارضة السياسية الخارجية بشكل خاص والداخلية بدرجة أقل، إلى موضة دارجة. ما يكشف عن هشاشة أوضاع المعارضة وهامشيتها، وعن فشلها في تأطير أهدافها السياسية المرحلية وأيضاً الاستراتيجية، تحديداً بعد تمدد الفصائل الإسلامية المتطرفة منها و«المعتدلة». ما يعني استمرار تشتت المعارضات السورية بين أقطاب إقليمية ودولية متناقضة ومتنافسة، وذلك ينعكس على تركيبتها الداخلية وعلاقاتها البينية، وأيضاً على طبيعة اشتغالها السياسية. ما يزيد من ضعفها وهامشيتها، ومن تناقضاتها البينية. ويفاقم من ذلك تفاقم روح الأنانية والعصبوية والشخصانية والحسابات الذاتية. ما يدلل على اتساع الفجوة بين أهداف الجهات المذكورة، وأهداف السوريين المحمولة على التغيير الوطني الديموقراطي. وتكشف عن ذلك آليات اشتغال منصات سورية معارضة في موسكو والقاهرة والرياض وآستانة، ومنصة بيروت التي استعارت اسمها من التاريخ السوري (الكتلة الوطنية السورية). وجميعها تتحول في مناخ يسوده التنافر والتناقض، إلى كتل منقسمة على ذاتها، وتجمعات وظيفية تُفاقم من تناقضات «الثورة السورية»، وإطالة عمر ما تبقى من النظام.
أما في ما يتعلق بمنصات الحوار الداخلية، فإن أهدافها وآليات اشتغالها، والدوافع الكامنة وراء تشكيلها، ما زالت غير واضحة. وذلك لا ينفي إمكانية موافقة الحكومة السورية أو جهات منها على تشكيل تلك المنصات، أو حتى دعمها من قبل جهات أو شخصيات روسية فاعلة. وذلك لا يقلل من أهمية ما تحمله من مشاريع سياسية، ومن دورها في مستقبل سوريا السياسي. ويشتغل القائمون بأعمال منصَّات الحوار الداخلية على: أولاً، تمكين التواصل بين رموز المعارضة السياسية وشخصيات عامة ومفكرين وكتَّاب وناشطين، لتفعيل الحوار السوري الداخلي حول خيارات السوريين، ونقله إلى مواقع ومستويات أكثر دقة وموضوعية وشمولية وتخصصية. ثانياً، الاشتغال على تأطير وتوضيب نتائج اللقاءات في سياق يتم فيه تفعيل آليات اشتغال سياسية ومدنية وفكرية بعيداً عن تداعيات الأزمة. ثالثاً، بحث آليات إعادة الترابط بين المكونات المجتمعية وإعادة السلام الداخلي لها. رابعاً، بحث إشكاليات الهوية السورية من منظور المعطيات التاريخية وخيارات السوريين. خامساً: بحث هوية الحكم والدولة والاقتصاد والحوكمة. سادساً، بحث القضايا المذكورة في إطار التأسيس لميثاق وطني يستمد مضامينه وإطاره العام من حوار وطني عام وشامل وعميق.
نُشير أخيراً إلى أن إنجاح الحل السياسي يحتاج إلى تجاوز عقلية المكاسرة والغلبة، والارتقاء الوطني السياسي والأخلاقي إلى مستوى محنة السوريين ومعاناتهم الإنسانية، والتصدِّي الفعلي لثقافة القمع والعنف الطائفي، والتدخل الخارجي، وأيضاً للتمسك بأدوات وأشكال التغيير السياسي المدني. وكذلك، فإنه يحتاج إلى ربط منصات الحوار وتحديداً الداخلية مع التيارات السياسية والمدنية الحاملة لمشاريع التغيير الوطني الديموقراطي، ومع الفئات والشرائح والبنى الاجتماعية كافة.
*كاتب سوري