تعيش الحركة النقابية في لبنان أزمة معقدة حولت معظم النقابات إلى نقابات صوريَّة غير فاعلة. كيف تطوّرت هذه النقابات؟ وما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا الواقع؟ بدأت الحركة العمالية في لبنان بنحو عفوي في أواسط القرن التاسع عشر، وتمثّلت في الانتفاضة التي قادها المزارعون بوجه الإقطاع، ثم تقوننت مع قانون الجمعيات عام 1909 الذي أصدرته السلطة العثمانية، ولا يزال معمولاً به ليومنا هذا.

لم تتبلور هذه الحركة في إطار واسع إلا مع تأسيس حزب العمال العام عام 1921، الذي شُكل من عدة نقابات. وفي عام 1944 أسس الاتحاد العام لنقابات العمال والمستخدمين. وفي أيلول من عام 1946 أقرّ قانون العمل تحت ضغط الإضرابات التي شملت قطاعات عدة. هذا القانون تعمّد بدماء العاملة في شركة الريجي وردة بطرس التي استشهدت في خلال إضراب عمال الشركة برصاص القوى الأمنية. أما الحملات الأمنية على النقابيين فلم تتوقف بصدور القانون، فاعتقل العديد من النقابيين اعتباراً من عام 1948 واستشهد النقابي سليمان علي الشريف برصاص القوى الأمنية عام 1950.
استمرت الحركة النقابية في لبنان بتنظيم نفسها وتصاعد العمل النقابي المنظم، وارتفعت وتيرة الضغط النقابي، ما دفع رئيس الجمهورية عام 1964 إلى توقيع مرسومي قانون الضمان الاجتماعي وقانون عقود العمل الجماعية. وفي عام 1966 أُسس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين. وأُنشئ العديد من النقابات واتحادات النقابات كذلك شُكلت روابط للمعلمين في القطاع الرسمي. وفي عام 1970 انضمت كل الاتحادات إلى الاتحاد العمالي العام. وشهد عام 1972 إضراباً كبيراً لعمال معمل غندور، تكلل بتظاهرة حاشدة عند باب المعمل، حيث أطلقت القوى الأمنية النار واستشهد كل من يوسف العطار وفاطمة الخواجة. وفي العام نفسه أعلن أساتذة التعليم الرسمي إضراباً مفتوحاً انتهى بإعلان رئيس الحكومة آنذاك صائب سلام فصل 324 أستاذاً من عملهم. وفي عام 1975 استشهد المناضل معروف سعد، وكان يومها على رأس تظاهرة لصيادي السمك.

الخلافات بين مكونات
هيئة التنسيق النقابية مكنت الأحزاب من إضعاف بنيتها


دخل لبنان أتون الحرب في عام 1975، ودخل عصر الانقسامات الطائفية والمذهبية، الأمر الذي انعكس مباشرةً على الأحزاب السياسية، التي أصبحت بمعظمها أحزاباً طائفية، ما استتبع وضع يد الأحزاب الطائفية على النقابات، فأصبحت مقاعد الهيئات الإدارية ومجالس النقابات توزّع على أساس المحاصصة الطائفية، وأصبحت نقابات ما بعد الحرب نقابات خاضعة للمزاج السياسي تتحرك عند صدور الأمر بالتحرك وتتراجع بصدور أمر معاكس.
بنتيجة ذلك، أصبح الاتحاد العمالي العام في لبنان، مقارنةً بالاتحادات النقابية حول العالم، أكثر الاتحادات سكوناً والأكثر تمسّكاً بقِدمه. الاتجاه العام في سلوكه يشير إلى تضخيم مشكلاته أكثر وأكثر، وذلك باستيعابه المزيد من الاتحادات ذات الصفة الحزبية والمذهبية والانخراط في تحركات ذات أغراض سياسية لا تعود بالمنفعة على العمال والموظفين (غسان صليبي).
أما لجهة عدد المنتسبين إلى الاتحادات التي يتكون منها الاتحاد العمالي العام، فيقدّر بنحو 58690 منتسباً من أصل 745760 عاملاً وأجيراً يحق لهم الانتساب (دراسة أعدها الاتحاد الأوروبي ومؤسسة فريدرش إيبرت عام 2002). اما دراسة مؤسسة البحوث والاستشارات التي نشرت في عام 2016، فأشارت إلى أن 92.5% من العمال لم يحاولوا التنسيق مع زملائهم بغرض الانضمام إلى نقابة ما، وأن نسبة المنتسبين إلى نقابات هم فقط 9.3% من العاملين في القطاع الخاص، و35.9% من العاملين في القطاع العام. وأشارت الدراسة إلى أن 22.1% من المنتسبين لنقابات يؤمنون بدور نقابات العمالية لتحسين مستويات معيشة العمال. كذلك إن نسبة موظفي الإدارة العامة المنتسبين إلى رابطة موظفي الإدارة العامة حسب قيود الرابطة لا تتجاوز 10% أكثر من نصفهم من وزارة المالية.
في مقابل ذلك، وبالاتجاه المعاكس، فقد ترافق مع قلّة عدد المنتسبين إلى النقابات، زيادة كبيرة في عدد النقابات التي زادت على 210 نقابات حسب الموقع الرسمي للاتحاد العمالي العام في لبنان وأكثر من 500 نقابة وأكثر من 52 اتحاداً بحسب دراسات أخرى.
في خلال عام 2012 برزت هيئة التنسيق النقابية من خلال المطالبة بسلسلة الرتب والرواتب للقطاعات العسكرية والإدارية والتعليمية. وحلّت تدريجاً على مستوى الساحة المطلبية مكان الاتحاد العمالي العام، ونجحت في استقطاب الناس حولها بعد تبنّيها لشعارات مكافحة الفساد، وبعد التصويب على مكامن الهدر في الإدارات والمؤسسات العامة ومطالبة الدولة بقمع الفساد ووقف الهدر. لكن هذه الحالة المميزة لم تصمد طويلاً، إذ سرعان ما بادرت الأحزاب السياسية، التي تعوّدت القبض على أنفاس الحركة النقابية، إلى التدخل في قرارات هيئة التنسيق النقابية من خلال العناصر الحزبية داخل الروابط والنقابات المنضوية تحت لواء الهيئة. وترافق ذلك مع هجوم إعلامي منظم من بعض الهيئات الاقتصادية وبعض السياسيين وبعض الأقلام الصحافية بهدف الشقاق بين مكونات الهيئة والناس من خلال نشر شائعات مفادها أن السلسلة ستؤدي إلى انهيار العملة وارتفاع الأسعار وزيادة الضرائب. وقد نجحت هذه الحملة الشعواء لما للهيئات الاقتصادية من نفوذ واسع لدى معظم وسائل الإعلام، فأصبحت أكثرية البرامج التلفزيونية بالذات التي تتناول موضوع السلسلة تستضيف فقط الهيئات الاقتصادية وبعض السياسيين المعروفين بموقفهم السلبي من السلسلة.
تطورت الحملة على هيئة التنسيق النقابية من خلال الانتخابات التي شهدتها الهيئات الإدارية لروابط المعلمين، حيث عمدت الأغلبية الساحقة من الأحزاب بمختلف توجهاتها إلى دخول الانتخابات بلوائح موحدة تمكنت في اجتياح كافة مقاعد الهيئات الإدارية لروابط المعلمين. أما لناحية رابطة موظفي الإدارة العامة، فقد شهدت انتخابات هيئتها الإدارية التي حصلت في 15 تموز من عام 2016 شوائب عديدة أدت إلى شلّ عملها لفترة طويلة، ولا تزال نتائج تلك الانتخابات عالقة أمام القضاء ولم تحصل عملية توزيع المراكز داخل الهيئة الإدارية لتاريخه، ولم تجرِ تبعاً لذلك عملية التسلم والتسليم بين الهيئة الإدارية القديمة وتلك الجديدة غير الواضحة المعالم.
كذلك لا بد من الإشارة إلى أن الخلافات بين مكونات هيئة التنسيق النقابية شكلت بؤرة استطاعت من خلالها الأحزاب إضعاف بنيتها، ولا سيما بسبب المطالب التعجيزية والتعاطي الفوقي لبعض قيادات رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي، وبسبب التأجيل المتكرر لانتخابات الهيئة الادارية لرابطة موظفي الإدارة العامة، وبسبب تغليب المصالح الشخصية والحزبية الضيقة عند البعض على المصلحة العامة للموظفين والمعلمين.
إن عدد المنتسبين الضئيل للنقابات والروابط في لبنان، وما شهدته تلك النقابات والروابط من قمع ووضع يد وسيطرة على القرار من بعض الجهات السياسية، بالإضافة إلى التشرذم الداخلي، يدل بوضوح على أن مشهد الحركة النقابية في لبنان مشهد قاتم، حيث تظهر كافة الاتحادات والنقابات والروابط عاجزة ومسيّرة، ما جعلها فاقدة لثقة معظم الموظفين والعمال والمستخدمين. وبناءً عليه، أصبحت الحركة النقابية في لبنان شبه متوقفة عن الحركة.