باتت الجوائز العربيّة في الرواية حديث الصحافة والنقّاد. بين رافضٍ لفكرة نيل بعض الروايات جوائز معيَّنة، وبين قبول فكرة أن تكون الجائزة تفرّغاً للكتابة بالنسبة إلى الكاتب في العالم العربي، ضاعت البوصلة.
باتت الخلافات تدبّ في الأوساط الروائيّة العربيّة وافتتح باب النقاش حول الروايات التي تنال الجوائز. لكن في ظلّ احتدام النقاشات حول أحقيَّة الفوز من عدمها، ضاع النقاش الحقيقي حول الرواية، وضاع التأويل والكتابات النقديّة حول الرواية المُعلَنة بالفوز.
في هذا الملف، حديث مع روائيين عرب حول الروايات وإشكاليّة تلك الجوائز، ولمَ هذا الاهتمام المثير بالرواية العربيّة في الزمن الرّاهن؟
الروائي السوري نبيل الملحم الذي صدرت له أخيراً عن «دار المتوسط» رواية جديدة بعنوان «خمّارة جبرا» يقول إنّه لا يلتفت إلى الجوائز، مُرجعاً ذلك إلى أنّ «للجوائز على الأغلب حسابات تعلو فوق سلطة النص، الجائزة قيمة النصّ، مغامرة النصّ، وذلك ينطبق على الجوائز العربيَّة كما على الجوائز التي يمكن تصنيفها بالجوائز العالميّة، ونادراً ما ينجو نصّ من الحسابات، حسابات السياسة، حسابات العلاقات، وكذا حسابات اللحظة». ويتابع: «هذه مشكلة ألحقت الكثير من الكوارث بالإنتاج الأدبي على وجه العموم، والروائي هو من بين من نالته تلك الكارثة». وعن إيراد أمثلةٍ ما، يتابع الملحم: «لن أسمح لنفسي بإيراد أمثلة، لكنني أحتكم بالنتيجة إلى القارئ، وثمّة اختبار أجريته أنا شخصيّاً على واحد من الأعمال التي تمّ الترويج لها. ابتعت عشر نسخ منه، وأهديتها لقرّاء من مختلف الأمزجة والثقافات، وكنتُ على رهانٍ مع ذاتي. محتوى الرهان كان: هل بوسع واحدٍ من العشرة استكمال قراءة الرواية بين يديه؟». وعن النتيجة، يقول: «لقد فزتُ بالامتحان، وأؤكّد للمرّة الثانية أنّ الجوائز غالباً ما تُمنح للأعمال التي تخضع لشرط المانح. لا أظنّ أن عملاً محترماً قابل للخضوع لأيّ سلطة، بدءاً من سلطة السياسة، وصولاً إلى سلطة المموّل، المانح، الإعلامي، بل حتّى جمهور القرّاء الذين احتكمت إليهم في رهاني. جائزة النصّ هو تحرّرهُ من الاشتراطات، أيّ اشتراطات كانت». ينهي الملحم حديثه بالقول: «سأقول كلاماً ربمّا في بالغ القسوة. ثمّة أعمال تمثّل عاراً على الرواية مُنحت جوائزَ وتصدّرت البروباغاندا الإعلاميّة. أعمال رهينة واقعة، حدث، بيان سياسي إن شئت، روايات مرهونة باللحظة، الرواية ليست لحظة».
وعن سرّ الاهتمام بالرواية في وقتنا الراهن، يرى الروائي المصري وليد علاء الدين صاحب رواية «ابن القبطيّة» أنّ «محاولة تقديم طرح توافقي لسرّ الاهتمام العربي بالرواية أمر شديد التعقيد. ما يراه بعضهم اهتماماً، قد يراه آخرون محاولة احتواء!».
يستحضر علاء الدين الوصفَ الذي استخدمه عباس محمود العقاد في أربعينيات القرن العشرين «للتعبير عن رأيه في الرواية كجنس أدبي مستعيراً القول السائر «قنطار خشب ودرهم حلاوة» وهو الوصف الذي ارتبط بنبات «الخروب» الذي يجب على المرء مضغ خشبه الكثير من أجل استقطار قطرة واحدة من طعمه الحلو»، متابعاً: «في تلك الفترة، كان العقاد يرى أن الشعر يفعل العكس، وهو تكثيف التجربة في أبيات قليلة، موقناً بأن قنطاراً من القصة يساوي درهماً من الشعر، لأنّ القصة في معدنها دون الشعر في معدنه، لأن النفاسة هي أن يساوي الشيء القليل الشيء الكثير».
هذا المثال يكشف الفرق الكبير في مفهوم الأدب والكتابة الإبداعية في زمن العقاد وزمننا الراهن. فرق مرتبط بنظرة المثقف والكاتب لنفسه، فالأول أستاذ يقدّم للعالم خلاصات ما توصل إليه بيقين لا يخامره شك في صحة خلاصاته؛ والآخر باحث قلِق يزيده الوعي قلقاً، فيكتب من أجل ترميم نفسه وطمأنة روحه. عندما أطلق العقاد مقولته تلك، عبَّر ببراعة عن عصره وعن نمط التفكير الحاكم فيه. في تلك الآونة، تصدى للرد عليه أديب شاب، بعبارة جسدت بصياغة مرهفة ودلالة حادة النقلة التي كانت تحدث آنذاك من دون أن ينتبه إليها الكاتب الكبير. الأديب الشاب وقتها هو نجيب محفوظ الذي قال: «لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتماً إلى فن جديد، يوفِّق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه القديم إلى الخيال». وأضاف محفوظ محدداً ما ستثبت الأيام صحته: «لقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس ذلك لأنه أرقى من الزمن، لكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائماً للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة. وسبب آخر لا يقل عن هذا في خطره وهو مرونة القصة واتساعها لجميع الأغراض، ما يجعلها أداة صالحة للتعبير عن الحياة الإنسانية في أشمل معانيها».
لقد وضع محفوظ يده على إجابة السؤال التي نجتهد في التعبير عنها اليوم حين وصف السرد أو القصة أو الرواية بأنها «أداة صالحة للتعبير عن الحياة الإنسانية في أشمل معانيها».
إنه وصف كاف لإغلاق البحث في هذا الأمر وتوجيه طاقة الحوار والنقاش في اتجاه آخر، هو: كيف نخفف من آثار الدور السلبي الذي يقوم به سدنة اليقين المغلق، وحُرّاس متاحف الإبداع، هؤلاء الذين يقاومون تطور الرواية وحركة انفتاحها على التجريب واحتواء كل أشكال الإبداع لتكون بالفعل معبرة عن الحياة الإنسانية في لحظاتها الراهنة؟ يجيب علاء الدين: «لهؤلاء الحراس أدواتهم؛ لهم وظائفهم الراسخة أعلى قمم الهياكل الإدارية المتحكمة في تدفق الثقافة الرسمية، لهم مقاعدهم الأكاديمية على قمم أقسام الأدب والنقد في الجامعات، لهم علاقاتهم الأبوية الحاكمة في الصحافة الثقافية، لهم نطفهم المنثورة في كل ركن من أركان الحياة في هيئة تلامذة من نقاد تشربوا منهم فكرة النقد المدرسي الخالي من الإبداع، فبات الناقد موظفاً لدى مدارس النقد، لهم هذه الأدوات وغيرها الكثير مما يسمح لهم بفرض ذائقتهم بل تشكيل ذائقة الناس عبر تأجيل تماسها مع كل جديد. يفعلون ذلك من خلال توجيه المهرجانات، والملتقيات، واختيار لجان تحكيم الجوائز، فيبدو لهم ولغيرهم أن الأمور تمضي في الطريق التي يرونها جيدة. ما يحدث هو أن فن الرواية ـــ خارج هذا المشهد ـــ يتطور، الكتاب الحقيقيون يمارسون ألعابهم الإبداعية في استجابة حرة لروح العصر، يجربون منفتحين على الكون كله».
ويتابع أنّه «انتهى عصر الحِكَم الفارغة، والبلاغة المحلقة، والمقولات الرنانة والشعارات غير القابلة للمراجعة والتدقيق. إنه عصر المراجعة؛ مراجعة كل شيء وتقليب حجارة الأساس والاجتهاد في إعادة تنظيمها واختبار وضعيات جديدة. هذا ما يمكن أن نصف به الرواية في هذا العصر. وإن كان مشهد الجوائز والمهرجانات والملتقيات والنشرات الرسمية لا يعكس إلا الجزء اليسير من ذلك، إلا أنك لا شك سوف تلمح بارقة أمل هنا وأخرى هناك استعداداً لاستعادة المشهد المسلوب»؟
وعما إذا كانت الجائزة تُضفي أهميَّة ما على أيّ رواية؟ يجيب الروائي اللبناني فوزي ذبيان صاحب رواية «أورويل في الضاحية الجنوبيّة»: «قطعاً لا، لا تضفي الجوائز أهميّة على أي عملٍ إبداعي سواءٌ روايةً أو غيرها»، متابعاً: «طالما شهدنا بعض الجوائز التي تستمدّ قيمتها من العمل الذي توجّهت الجائزة إليه لا العكس. استذكر هنا عناوين بعض الصحف العالميّة لدى فوز كاتب لاتيني بجائزة «نوبل»، حين اعتُبر هذا الفوز شهادةً للجائزة لا للكاتب! في المقابل، من سمع اليوم على سبيل المثال بالروسي إيفان بونين الذي فاز سنة 1933 بالجائزة نفسها؟!». وحول استحقاق هذا العمل أو ذاك الجائزة، يجيب: «هذا موضوع إشكالي ومعقّد، فذائقة المتلّقي تختلف جذرياً بين عملٍ وآخر بصرف النظر عن المعايير النقديّة في هذا الصّدد. كلّنا يتذكّر الصخب الذي رافق فوز الروائيّ العربيّ نجيب محفوظ بـ«نوبل» سنة 1988 رغم عبقريَّة هذا الراحل الكبيرة». وعن العوامل المؤثّرة في نيل الجوائز الروائيّة، يقول ذبيان: «كثيرة هي العوامل المؤثّرة في نيل الجوائز وبعضها قد لا يكون له علاقة بالنواحي الفنيّة، كأن يكون موضوع الرواية قد استقطب الاهتمام أكثر من قدرات كاتبها الإبداعيّة مثلاً». أمّا المواقف السلبيّة من فوز هذا الكاتب أو ذاك في العالم العربي، وغالباً ما نشهدها، فيجيب: «لا يمكن التعويل على الكثير منها، لأنّ لسان الحال غالباً ما يكون الآتي: لماذا هو أو هي وليس أنا؟! ولا بأس في ذلك، فهذا اعتراف ضمنيّ بما يعتري «العباقرة» من مشاعر غيرة وحسد، شأنهم شأن بقيّة البشر وهو ما يرفضه عن سذاجةٍ لطيفة بعض هؤلاء «العباقرة»».
يتّفق أغلب النقّاد على أنّ الرواية اليوم هي ديوان العرب. وعن انتشار الرواية بحدّ ذاتها، يقول ذبيان: «هذا الأمر مؤشِّر إلى حاجة الكاتب العربي إلى التنفيس عمّا يخالجه من مشاعر الهزيمة والعار، وهي قد تكون أيضاً انعكاساً مباشراً للمأزق ودعوة مبطّنة أو صريحة للاحتجاج، فالجزء الأكبر من إنتاج العرب روائيَّاً منطلق من واقع الكارثة الفعلي! وكما دوّنتُ في مقالٍ سابق لي، أنّ الرواية العربيّة اليوم تكتبها الكارثة. وعبر الرواية يستطيع الإنسان قول كلّ شيء وأيّ شيء، أليسَ كذلك؟! فأنا من الناس الذين يؤمنون بأنّ الرواية تستطيع قول كلّ شيء».
يذهب الروائي السوري وليد السابق إلى أنّ «الجائزة تسهم في نشر الرواية، وهذا أمر لا شك فيه، لتصل إلى أكبر شريحة من القرّاء والإعلاميين والمهتمّين بالشأن الأدبيّ». ويتابع: «إن كانت روايةٌ ما ذات قيمة عالية ـــ وهذا ما يجب توافره في روايةٍ تحمل جائزة ـــ يصبح انتشارها أسهل وأسرع. لكن ليست كلّ رواية مهمّة عربيّاً أو عالمياً، هي رواية جائزة». وفي معرض الإجابة حول ما إذا كانت كل رواية حائزة جائزة ما تعتبر رواية مهمّة، يقول السابق: «يمكن المفاضلة بين روايتين أو أكثر في حسم أمر جائزةٍ معيَّنة لاعتبارات كثيرة، سياسيّة أو مجتمعيّة. كما يمكن المفاضلة بينها وفق ظروف تعيشها المنطقة التي تُوزَّع فيها الجائزة. يمكن تقديم رواية على أخرى ذات قيمة، لكن يقيناً أنّ الرواية التي تحصد جائزة بعينها هي رواية مهمّة. من يحكمون في أمر جائزةٍ ما، هم بشرٌ مثلنا بخلفيّات ثقافيّة متنوّعة وبيئات ـــ قدِموا منها ـــ متنوّعة هي الأخرى. ولا بدّ من أنّ العامل الشخصي للحكّام يلعب الدور الأبرز هنا. في عام 1957، خسر الروائي اليوناني الأشهر نيكوس كزانتزاكيس الجائزة بفارق صوتٍ واحد لمصلحة الفرنسي ألبير كامو، يمكن اعتبار خسارة كزانتزاكيس للجائزة شيئاً من الإجحاف، لكن يقيناً وفي هذا الصَّدد لا يمكن اعتبار أعمال كامو وبأي شكل من الأشكال غير مهمّة».
يعتقد الروائي السوري سومر شحادة صاحب رواية «حقول الذرة» التي نالت «جائزة الطيّب صالح للرواية» أنّ «نوع الرواية لا يضيف هيبةً ما على النصّ، أو حتّى الجائزة التي حصلت عليها». ويتابع: «الفكرة في مكانٍ آخر تماماً. مثلما يكون الكاتب وحيداً أمام نصِّه، كذلك يكون النصُّ وحيداً أمام قارئه، في النهاية القارئ هو العين التي ترى الأدب وتراه بذاته، لا بما يُشاع عنه أو يُثار حيالهُ».
في ما يتعلق بالجوائز الخاصّة بالرواية، يقول القاصّ والروائي العراقي زهير كريم إنّ «أهميّتها تتحدّد في خلق جوّ تنافسي، وهو بالتأكيد جوّ صحي يحرِّض على الكتابة الجيّدة، لكن المعايير الصارمة هي شيء لا يمكن أن يتحقّق في تقييم الأعمال». ويوضح: «لجنة منح الجوائز هم مجموعة من المتخصّصين. مع ذلك، لا أنزّه أن تكون هي الأفضل. في إحدى دورات جائزة «بوكر»، كنت أتوقّع أن تفوز رواية أحمد المنسي قنديل «كتيبة سوداء» ولم أجد منافساً لها ـــ هذا مزاجي في القراءة ـــ لم تفز الرواية، ولكن لو كنت أحد أعضاء اللجنة، بالتأكيد سوف أعمل جاهداً على رفع هذه الرواية إلى مقام الفوز، إن استثنيت بالطبع الشروط الأخرى التي لا علاقة لها بالإبداع، وهي أشياء موجودة حتّى في نوبل، الجائزة الأدبيّة الأكبر في العالم».