يتغلغل الخطاب «الشعبوي» في كل الشؤون. منذ أيام، حوّلت جمعية الصناعيين اللبنانيين ما سمته «صرخة» لإنقاذ القطاع الصناعي إلى صرخة ضده، إذ طالبت بـ«إقفال كل المصانع غير الشرعية التي أنشأها النازحون السوريون في كل المناطق اللبنانية». هكذا تحوّل المطلب التاريخي المزمن بدعم الصناعة في لبنان وحمايتها وتطويرها وتوسيع قاعدتها إلى مطلب معاكس تماماً، أي المطالبة بإقفال مصانع قائمة بدلاً من السعي إلى إقامة المزيد منها، وتسوية أوضاعها القانونية وتحفيز زيادة استثمارات السوريين في الإنتاج الصناعي ونقل خبراتهم إلى لبنان وزيادة فرص العمل التي توفرها مؤسساتهم. قال رئيس الجمعية، فادي الجميل: «لن نسكت عن مؤسسات غير شرعية تفرّخ كالفطر في المناطق كافة من قبل النازحين، لتحلّ مكان مؤسساتنا الشرعية التي بناها أجدادنا وآباؤنا بعرق جبينهم، لتموت في ليلة ظلماء». وختم: «إن القضية التي نناضل من أجلها قضية مصيرية، فكونوا مستعدين لتلبية النداء دفاعاً عن مصانعكم التي هي تاريخكم ومستقبلكم وحياتكم».
أوحى الجميل في كلامه كما لو أن مصدر أزمة القطاع الصناعي في لبنان وضآلة حجمه هو مصانع السوريين النازحين إلى لبنان، لا النموذج الاقتصادي اللبناني، الذي استبدل الدَّينَ بالإنتاج، والهجرةَ بالصادرات السلعية والخدمية، وأدى إلى انتفاخ القطاع المالي ورفع كلفة التمويل، وشجّع المضاربات على أسعار الأراضي وزيادة كلفة التوظيف في الاقتصاد الحقيقي... ونزع أهم وظائف الدولة في التنمية وتأمين البنية التحتية والخدمات العامة والحماية الاجتماعية.
جذور أزمة الصناعة في لبنان تحفر عميقاً في التاريخ. ولا علاقة لها إطلاقاً بوجود مصانع شرعية وغير شرعية للسوريين في لبنان. علماً أنّ التقديرات تفيد بأن عدد هذه المصانع التي يجري اليوم تحميلها وزر الأزمة التاريخية عدد ضئيل جداً، وينحصر ببعض الأنشطة الصناعية البسيطة، إذ سياسة الدولة مع اندلاع الصراع في سوريا كانت سياسة طاردة ولم تسمح بجذب الرساميل الصناعية السورية الهاربة من الحرب، ولا سيما من منطقة حلب.
بحسب إحصاءات البنك الدولي، تراجعت حصة الصناعة من مجمل الناتج المحلي في لبنان من 12.5% في عام 1997 إلى 8.8% في عام 2009، أي إنّ التقهقر في مؤشرات الصناعة يسبق النزوح السوري إلى لبنان ولا يمت بصلة إليه، ففيما كان متوسط نمو الناتج المحلي في الفترة المذكورة (1997-2009) يقدّر بنحو 3.7%، كان متوسط نمو الصناعة يسجّل 1.7%، وهو ثاني أدنى معدّل نمو بين القطاعات بعد قطاع الزراعة (1.1%). وفيما كانت الصناعة تشغّل نحو 18.8% من مجمل القوى العاملة في لبنان في عام 1970، تراجعت مساهمتها في التشغيل إلى 12.1% في عام 2009.
اعترف الجميل بأن الصناعيين سكتوا في معظم الأحيان، فيما كان القطاع الصناعي يعاني من «نزف أفرغ الكثير من قدراتنا وقضى على الكثير من مصانعنا». طبعاً، لم يشر الجميل في «صرخته»، ولا المشاركون الآخرون، إلى مصادر هذا النزف التي تعكسها هذه الوقائع والأرقام، والكامنة في أزمة النموذج الاقتصادي الريعي القائم، بل اكتفى بستة مطالب لا تصيب هذا النموذج، ومن بينها المطالبة بإقفال مصانع السوريين، إلى جانب المطالبة بـ«فرض رسوم حمائية على السلع المنافسة لمنتجاتنا اللبنانية»، و«رفع نسبة الرسوم الجمركية المعمول بها راهناً قبل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية»، و«التفاوض مع الشركاء التجاريين الأساسيين (...) لإعطاء منتجاتنا الوطنية الأفضلية لزيادة صادراتنا إلى أسواقهم»، و«إجراء مفاوضات مع الدول الشقيقة والصديقة التي تربطنا بها اتفاقيات تجارية لتنفيذ كل مقتضيات هذه الاتفاقيات وعدم الاستنسابية التي تحرمنا الكثير من الميزات التجارية التي تتضمنها هذه الاتفاقيات»، وكذلك دعوة «المنظمات الدولية وكل الجهات التي توفر الإمدادات للنازحين السوريين أن يعطوا الأولوية في مشترياتهم للمنتجات اللبنانية، بدلاً من استيراد معظم هذه السلع من الخارج».

رفض شقير الحماية الجمركية للصناعة ودعم اقفال المصانع
وأخيراً، المطالبة بـ«خطة لتحفيز الصادرات الصناعية لاستعادة ما خسرناه من صادراتنا في السنوات الأخيرة، التي وصلت إلى نحو مليار و200 مليون دولار».
كان الجميل يتحدث في مؤتمر صحافي دعت إليه الجمعية يوم الثلاثاء الماضي، وشارك فيه وزيرا الصناعة حسين الحاج حسن، والاقتصاد والتجارة رائد خوري، ورئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة محمد شقير.
على الرغم من أن شقير عارض المطلب الوحيد الذي يخدم مصالح الصناعيين، المتمثل بفرض الرسوم الحمائية، «لأننا لا نريد اليوم إضعاف التاجر (...) إذ لا يجوز اليوم رفع الجمارك لأنه سيؤدي إلى تشجيع التهريب»، إلا أنه تلقف مطالبة الجميل بإقفال مصانع السوريين، داعياً الحكومة لإصدار قرار بـ«إقفال المؤسسات السورية غير الشرعية، على أن ننطلق لاحقاً إلى معالجة أوضاع المؤسسات اللبنانية غير الشرعية»، مقترحاً «إصدار قرار يعفي المصانع اللبنانية غير الشرعية من متوجباتها الماضية، على أن تقوم مقابل ذلك بتسجيل مؤسساتها وتسوية أوضاعها». لكن شقير لم يجد ما يدعم تأييده لإقفال مصانع السوريين، سوى القول إن هناك «12 مصنعاً لمحارم ورقية و50 مطبعة أنشأها السوريون»، مشيراً إلى أن هذه المعلومات تؤكّد الخطر المحدق بالصناعة اللبنانية.
بدلاً من تصويب وجهة النقاش نحو مصادر أزمة الصناعة الحقيقية، ذهب الوزير الحاج حسن إلى المزايدة الشعبوية نفسها، معلناً أنه «وقّع قراراً طلب فيه من القوى الأمنية إقفال كل المصانع غير المرخصة في البقاع»، فيما سارع خوري إلى إعلان دعمه لقرار وزير الصناعة بإقفال المصانع السورية غير الشرعية، داعياً البلديات إلى التعاون لتنفيذ هذا القرار.
تجدر الإشارة إلى أن كلمة الوزير الحاج حسن في المؤتمر الصحافي كانت واضحة في إشارتها إلى أن الحل ليس في ما تطالب به جمعية الصناعيين، فـ«الحل مرتبط بأمور عديدة، منها سياسية، وأخرى مالية وضريبية وبنى تحتية».
(الأخبار)