هناك استحقاقان سياسيّان قريبان، قد نتلمّس في نتيجتهما الوتيرة الآتية للصراع في المنطقة، وطبيعة الدور الأميركي فيها. الإستحقاق الأوّل يتعلّق بحرب اليمن، حيث تتكاثف التحضيرات والتوقّعات بهجومٍ قريب تشنّه قوى الغزو («التحالف العربي») ضدّ مدينة الحديدة الساحلية ومرفأها، المنفذ الأساسي والأخير الذي يستمدّ منه أكثر من 19 مليون يمني محاصر جلّ غذائهم.
الفكرة اليوم هي أنّ الأميركيين لن يكتفوا بدعم قوى الغزو بطرقٍ «غير مباشرة»، كالاستطلاع والمعلومات الاستخبارية وتذخير الطائرات في الجوّ والمشاركة في قيادة العمليات من الرياض، بل ستكون قوات خاصّة أميركيّة في طليعة الإنزال وستشارك واشنطن مباشرةً في الحرب على اليمن. تقول «واشنطن بوست» إنّ الإمارات كانت قد طرحت خطّةً مشابهة في أواخر أيّام اوباما، لكنّ الإدارة الأميركية رفضتها (ليس لأسباب «انسانية» فحسب، بل لأنّ تقييم الجيش كان أنّ العملية شديدة الخطورة وغير مضمونة النتائج)، لكنّ إدارة ترامب تعطي إشارات ايجابية لعواصم الخليج. في أوّل شهر آذار من هذا العام، أبطل البيت الأبيض منعاً كانت إدارة اوباما قد فرضته على تزويد السّعوديّة بالذخائر المتقدّمة (اثر سلسلةٍ من المجازر)، وقد لمّح وزير الدّفاع، جايمس ماتيس، خلال زيارةٍ الى الرياض الى فكرة التعاون في وجه الحوثيين، باعتبارهم «امتداداً للنفوذ الايراني» في المنطقة.
الإستحقاق الثاني يتعلّق بـ«الإتّفاق النووي» مع ايران والعقوبات الأميركية. بالمعنى القانوني، العقوبات التي تمّ تعليقها عام 2015 إثر الاتّفاق مع «المجموعة الدولية» من صنفين: عقوبات فرضت بأمرٍ من الرئيس الأميركي، فقام اوباما بإلغائها ــــ ببساطةٍ ــــ بأمرٍ مضاد، وعقوبات شرّعتها قوانين ولا يمكن الغاؤها الّا بأمرٍ من الكونغرس، وما حدث عام 2015 هو أنّ الرئيس الأميركي قد أصدر مجموعة «إعفاءات» (waivers) تعلّق فعل هذه المواد القانونية، ما سمح برفع العقوبات «النووية» عن ايران (أغلب العقوبات الأميركية لا تزال قائمة، وهي تمنع فعلياً أغلب الشركات الأميركية من التعامل مع ايران). هذا التجميد يحتاج الى تجديدٍ يطلبه الرئيس، ولا يعترض عليه الكونغرس، بشكلٍ دوري. ولأن العقوبات تحتويها قوانين مختلفة، فإنّ لكلّ «حزمة عقوبات» موعداً مختلفاً لتجديد «الإعفاءات» (بعضها كلّ ستة أشهر، وبعضها كلّ 120 يوماً، الخ). حتّى اليوم، لم يضطرّ ترامب الى مواجهة الخيار ووضع توقيعه على إعفاءٍ جديدٍ للعقوبات. ترامب، كما هو معروف، هاجم الاتّفاق النووي مراراً، ووصفه بأنّه «أسوأ صفقة» عقدتها اميركا في تاريخها. ومنذ أسابيع، قام وزير الخارجية تيلرسون بتكرار خطاب أنّ الاتّفاق يحتاج الى تعديلٍ و«تحسينٍ» و«إعادة تفسير». إحدى الوسائل الممكنة لوضع آلية الاتّفاق، مجدّداً، على طاولة التّفاوض هي في أن يتجاهل ترامب موعد تجديد الحزمة القادمة من «الإعفاءات»، لتعود العقوبات الأميركية بشكلٍ اوتوماتيكي (وهو يراهن بأنّه، حتى لو خرقت اميركا الاتّفاق، فإن ايران ستبقي على التزامها به، لضمان استمرار التجارة مع باقي الشركاء الدوليين، وهم لن يتبعوا اميركا في خطوتها). المسألة هي أنّ الموعد المقبل لتجديد «الإعفاءات» يستحقّ ــــ لقانونٍ يعود الى عام 2012 ــــ في منتصف هذا الشّهر، قبل يومٍ أو يومين من الانتخابات الرئاسية الايرانية.
اليمن وخيار المنسيين
اليمن «حربٌ منسيّة» لمن لا يريد أن يقرأ التّاريخ، ويعتقد أنّه إن تجاهل الأحداث فهي ستتجاهله. أكرّر دائماً أنّ بدايات «الزلزال» الذي أصاب المنطقة العربية لم تكن عام 2011، بل في تشرين من عام 2009 ومن «الهامش» في اليمن، حين وقعت «حرب صعدة» على الحدود السعودية، وحاولت المملكة أن تضرب «أنصار الله» للمرة الأولى. كانت الحرب دليلاً على أنّ هذا «النّظام العربي»، بتمويله النفطي وأنظمته التابعة ونسقه السياسي، قد اهتزّ وتصدّع ولم يعد قادراً على الاستمرار والهيمنة بآليات الماضي. بعد فترة طويلة من «التحكّم السلمي» بجيرانها، اضطرّت السعوديّة، للمرة الأولى منذ الستينيات، الى النّزول الى الميدان منفردة. لم يعد النّظام اليمني قادراً على احتواء المجتمع وهوامشه، ولم تعد آليات القمع والريع التي يمتلكها كافية لإبقاء الأمور تحت السيطرة. لمن راقب الحرب يومها، فإنّ هزيمة السعودية وعجزها عن حسم المعركة كان إشارةً الى أنّ هذا «النّظام العربي» قد وصل الى حدوده، وأن السنين المقبلة ستكون عجافاً، والكلمة فيها للسلاح.
العمليّة المرتقبة في الحديدة لا تختلف عن المسار الخليجي المجرّب: مغامرة غير محسوبة، تعلّق عليها آمالٌ عريضة وغير منطقية، تنتهي الى نتائج لم يتوقّعها أحد. الأمر الوحيد المحسوم، لو هاجم الخليجيون والأميركيون الحديدة، هو أنّ الوضع الانساني لكامل الشعب اليمني سيزداد مأسوية، ويبدو أن هذا هو الهدف «العسكري» الوحيد للمعركة. الحديدة مدينة كبيرة، غزوها يعني تهجير مئات الآلاف وضحايا كثر؛ كما أنّ احتلال وإغلاق المرفأ الأخير في اليمن الشمالي (هو أصلاً تحت حصار بحريّ سعودي منذ سنوات) سيضيّق المجاعة على أكثر من 19 مليون يمني، أي ما يقارب كامل عدد سكّان سوريا، كلّهم محاصرون ويجوّعون ويُقصفون، أعواماً متواصلة، ومحمّد بن سلمان ينتوي ضرب آخر منفذٍ لهم. بغير هذا المعنى، إنزالٌ في الحديدة لن يغيّر شيئاً في المعادلة العسكريّة، فالمناطق المحيطة بها موالية لـ«أنصار الله»، ولن تتمكّن قوى التّحالف من التقدّم بعيداً عن الساحل (ولو كان ذلك في وسعها، لفعلته في مأرب أو تعز، لا على ثغرٍ بحريّ معزول). المنطق الوحيد للعمليّة هو أنّ مزيداً من الحصار والتجويع هو ما يلزم لدفع اليمنيين الى الاستسلام.
حتّى توماس فريدمان، أبعد النّاس عن ملكة الأخلاق، كان يعتمد ــــ أثناء تحريضه على غزو العراق ــــ نظريّة «إن كسرته فإنّك اشتريته». بمعنى أنّك، حتى لو كنت قوّة امبريالية غازية، فأنت تحمل مسؤولية «أخلاقية» ما تجاه البلاد التي تدمّرها؛ وحين تحتلّ العراق وتُسقط دولته، فأنت تصبح ملزماً، بصرف النظر عن النتيجة وعن أهدافك، بالحفاظ على حياة العراقيين ووحدة البلد وما الى ذلك (هو، بالطبع، تهرّب من هذا القول بعد سنوات حين ساءت الأوضاع). في اليمن، الغزاة لا يرتقون حتّى الى مقاييس توماس فريدمان: المناطق المحتلّة في اليمن تغزوها الفوضى والتنظيمات السلفية، المحتلّون يساهمون في تقسيم البلاد علناً، ويحتفظون لأنفسهم بأجزاء من اليمن كأنّها لهم، جزيرة هنا ومحميّة هناك، ويخطّطون لتجويع من تبقّى وإطباق الحصار عليه (ولو كان الجوع والحرب كافيين لإخضاع اليمنيين، وجعلهم يحبّون الملك سلمان، لحصل ذلك منذ زمنٍ بعيد).
على المستوى المعنوي، لديك كلبنانيّ اسبابٌ خاصّة للتعاطف مع اليمنيين اليوم. نحن، مثلهم، وجدنا أنفسنا ــــ منذ أوائل الثمانينيات وحتى تحرير الجنوب ــــ هدفاً اجتمع عليه كلّ الأقوياء وقرّروا إخضاعه. من اسرائيل الى اميركا الى السعودية ومصر، وهؤلاء كلّهم لم يقفوا ضدّنا لأنّنا كنّا عدوّاً رهيباً يهدّد النظام العالمي، بل لأنّنا كنّا ضعفاء وفقراء ووحيدين، ولا أحد تقريباً يراهن علينا، وتوهّموا أن السحق والإخضاع سيكون هيّناً. ولكنّ التجربة التي بدأت صغيرةً في لبنان، وهي تجري اليوم على نحوٍ أوسع في اليمن والعراق، تعلّمنا أنّ هذه الفئات تحديداً، التي تنظّم نفسها وتقاتل تحت ظروفٍ صعبة، ويقوم القوي، ومن يستظلّ به، بتجاهلها والتآمر عليها ونسيانها والالتفات صوب «القضايا المربحة»، هي التي تظلّ وتعود أقوى في نهاية المطاف، وتفرض نفسها وتصنع «التاريخ».
ايران: التجربة والنظرية
في مكانِِ آخر، من المفترض أن تكون نتيجة الانتخابات الايرانية شبه محسومة لصالح حسن روحاني، فمن الصّعب، تاريخياً، لرئيسٍ ايراني أن يخسر منصبه بعد دورةٍ أولى، وأرقام الاستطلاعات تعطيه تأييداً كبيراً في وجه باقي المرشّحين، ولكنها لا تعطيه أغلبيّة؛ ما قد يفرض دورةً ثانية ضدّ مرشّحٍ «محافظ» لا تعود الأمور فيها قابلة للتنبؤ (الحملات الانتخابية انطلقت رسمياً منذ أسبوعٍ فحسب). ولكن هناك مستوىً آخر من الجدال يتعلّق بايران، يقع خلف الحسابات السياسية والتصريحات حول السياسة الخارجية. إدارة روحاني تقول إنّها ستتمّ خلال هذه السّنة (أي حتى آذار المقبل) تخصيص كلّ شركات الدولة التي كانت موضوعة على لائحة الخصخصة. هذه تضمّ مؤسسات رئيسية وكبرى، كالبتروكيمياويات والنفط وانتاج الكهرباء والمعادن، الخ… إكمال الخصخصة، بتعبير آخر، يعني استقالة الدّولة من مهمّة تمويل الصناعة في ايران (باستثناء تلك «الاستراتيجية» والتي تتحكّم بها مؤسسات سياسية ودينية)، ونقلها الى القطاع الخاص.
التخصيص في ايران لا يشبه التخصيص في بريطانيا، بطبيعة الحال، فالكثير من الأسهم تستحوذ عليها ــــ فعلياً ــــ شركات وصناديق عامّة، ولكنّ السياسة قرارٌ «استراتيجي» تمّ التوافق عليه في التسعينيات وأخذ أشكالاً مختلفة على مرّ السنين مع تنفيذه التدرّجي. النّزعة «الليبرالية» التخصيصية تقابلها فكرة «اقتصاد المقاومة»، التي أقرّها ــــ كعملية التخصيص ــــ المرشد الأعلى، وهي تطالب بالاكتفاء الذاتي في مجالاتٍ أساسية، وبناء القدرات الصناعية اللازمة لمواجهة حصارٍ أو حرب. ولكنّ «اقتصاد المقاومة» يعلّق الجدال ولا يحسمه (بمعنى أنّنا سنعتمد سياسة استثمار واكتفاء ذاتي لضرورات أمنية، ولأنّ الاقتصاد صار جزءاً من المعركة، ولكنّه لا يعني التزاماً بنظرية تنموية).
لو شئنا التبسيط، فإنّ الفارق بين نظرة فريق أحمدي نجاد وفريق روحاني الى الاقتصاد هي أنّ إدارة الرئيس السابق كانت تعتبر أنّ دور الدّولة هو في ضخّ الأموال في مشاريع وصناعات وشركاتٍ لها أولوية، فيما المعسكر المعاكس يعتبر أنّ دور الدّولة هو في تأمين منظومة مالية وقانونية منفتحة، تسمح للرساميل الخاصّة ــــ محلية وأجنبية ــــ بالتدفّق والاستثمار. وأنّ أثر الدّولة هو في الغالب ليس إيجابياً، وإدارتها سيئة، ومن الأفضل الاعتماد على الرساميل الخاصة لتحقيق الاستثمار والنموّ بدلاً من الانفاق من الخزينة. الخلاف بين الطرفين مرير، والتشويه متبادل (الصحف المؤيدة لروحاني لا تزال، الى اليوم، تلقي باللوم في كلّ مشكلة في البلاد على إدارة أحمدي نجاد)، ولكنّ الاقتصاد ــــ بعد أربع سنواتٍ ــــ هو نقطة ضعف روحاني. رغم رفع العقوبات والظّروف المؤاتية للنموّ، الّا أن الكثير من الايرانيين يعتبرون بأنّ رفع العقوبات لم ينعكس ارتفاعاً في مستوى الحياة للناس، وأنّ روحاني ينفق الأموال على المصارف والنظام الماليّ، بدلاً من الاستثمار في الاقتصاد والتّوظيف. كانت ايران تحقّق نموّاً مرتفعاً في ظلّ سياسات أحمدي نجاد حتّى في فترات الحصار السيّئة، فيما النموّ الايراني هذه السّنة (7 في المئة) يأتي بكامله تقريباً من الارتفاع في صادرات النّفط.
هذا موضوعٌ طويل لا متّسع لنقاشه هنا، ولكن هناك قصّةٌ عن الاقتصاد الايراني، لن يتناولها الإعلام في بلادنا وفي الغرب، تلخّص جزءاً من المسألة، والخيارات التي أمام شعوبٍ كشعوبنا، واحتمالات «العهد القادم». النّجاح الأكبر لإيران في السنوات الماضية لم يكن «الاتّفاق النووي»، ولا صناعة صاروخٍ أو نظام دفاعٍ جوّي، بل هو ما جرى في حقل «بارس الجنوبي» للغاز الطبيعي (المخزون الأكبر للغاز في العالم بلا منازع، وهو يقع تحت مياه الخليج، وتتقاسمه ايران وقطر). بدأ استخراج الغاز من الحقل الهائل في أواخر التسعينيات، عبر مشاريع تقودها شركاتٌ عالميّة، انسحبت كلّها ــــ فجأةً ــــ مع تصاعد العقوبات قبل عشر سنوات، والقليل من مراحل المشروع قد اكتمل. نظرية العقوبات كانت أنّ تطوّر ايران في مجال الغاز قد تجمّد، وهو لن يرجع الّا مع الاتّفاق السياسي. ايران لا تملك خبرةً حقيقيّة في بناء وتشغيل مشاريع طاقة بهذا الحجم، فما بالك بحقلٍ بحريّ يحتاج الى منصّات عائمة ومعدّات ومهارات متخصّصة؟
في بداية العقوبات، كان انتاج ايران من الغاز أكثر بقليل من 120 مليار متر مكعّب في السّنة، وهو اليوم يقترب من 300 مليار متر مكعّب، والزيادة كلّها من «بارس الجنوبي»، جرّاء إكمال العديد من مراحله خلال سنوات الحصار، وقد نفّذتها شركات ايرانيّة اثر انسحاب الأجانب. المسألة ليست فقط في أنّ الحصار قد أجبر الايرانيين على بناء قدراتٍ لم تكن ايران تملكها، وأصبحت لديها شركات تمكّنت من إدارة وتنفيذ مشاريع بعشرات مليارات الدولارات، وأضحت قادرة على تكرار التجربة في مجالاتٍ أخرى. بالمعنى المادّي المباشر، هذه الجهود التقنية المحلية (التي لم يتوقّعها أحد، بمن فيهم الكثير من الايرانيين) هي ما أنقذ ايران خلال فترة الحصار. الغاز الايراني من «جنوب بارس» كان المصدر الأساسي للنموّ خلال السنوات الماضية، وهو يساوي انتاج ملايين براميل النفط يوميّاً، ويغذّي كل شرايين الاقتصاد. توسّع انتاج الكهرباء جاء منه، والبتروكيمياويات التي تصدّر الى الخارج منه، وصناعات الحديد وغيرها تعتمد عليه. ولو لم تتمكّن ايران من استخراج هذا الغاز، لكانت واجهت أزمة كهرباء، وأزمة غازولين، ولشلّ النموّ الصناعي وذهب أكثر انتاج ايران من النفط على الاستهلاك الداخلي، ودخل الاقتصاد في ركودٍ عميق ــــ ولما كانت هناك ضرورةٌ، ساعتها، لـ«اتّفاق نووي» ومفاوضات.
المسألة هي ليست في أن نتعلّم من الماضي، في اليمن أو ايران أو غيرها، ولو بدت دروسه واضحة. ففي الاقتصاد، كما في الحرب، لا تأتي الايديولوجيا وتفضيلاتها في الغالب من الحجاج المنطقي أو القناعة الفكرية، ولو توهّمنا ذلك، بل يقرّرها ــــ أساساً ــــ موقعك الاجتماعي ومصالحك ونظرتك الى نفسك والعالم، وعلى هذه الأمور (التي لا مجال للجدال فيها) ينقسم الناس والنّخب.