الأسئلة بدأت تطرح نفسها بإلحاح على الفضاء السياسي المصري عن الانتخابات الرئاسية التي تقترب مواعيدها، وصورتها المتوقعة ومتنافسيها المحتملين. فيما هو طبيعي أن ينظر أي مجتمع إلى أهم استحقاقاته الانتخابية بشيء من التساؤل عما قد يحدث فيه، أو يحدثه من تغيرات في بنية القرار السياسي والتوجهات العامة.وفيما هو غير طبيعي ألا تكون هناك أي إجابة على شيء من التماسك والوضوح والإقناع، فالغيوم تتكاثر في المكان حتى بدأ البحث عن مرشح جدي ينافس الرئيس الحالي يشكل معضلة.

لماذا وكيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ إنه الخلل الفادح في البيئة العامة التي تغيب عنها قواعد التنافس الطبيعي بين الرجال والبرامج بحرية ونزاهة أمام الرأي العام.
إذا اختلت القواعد فلا أحد في العالم يمكنه أن يأخذ هذه الانتخابات على محمل الجد وسوف تبدو أمامه نوعاً من الاستفتاء المقنع، التي لا تؤسس لشرعية ولا تضمن استقراراً. في الأحوال الطبيعية، تتنافس القوى والتيارات السياسية على طرح مرشحيها قبل وقت كاف من المواعيد المقررة للانتخابات، أملاً بكسب ثقة الجمهور العام بما لديها من أفكار ورؤى وتأخذ الماكينات الانتخابية دورها في التعبئة والحشد وبناء التحالفات واكتشاف مناطق القوة والضعف. هذه بديهيات، لكنها في الأحوال غير الطبيعية تستحيل إلى معضلات. ولا أحد بوسعه أن يتوقع صورة الانتخابات المقبلة، فكل شيء سوف تحكمه حقائق اللحظة ـــ الاجتماعية قبل السياسية، ومدى تقبل الرأي العام للضغوط الاقتصادية على مستويات معيشته.

المعارضة الاجتماعية أقوى من المعارضة السياسية وأشد أثراً

بمعنى آخر، فإن المسافة لا تزال طويلة حتى مطلع عام ٢٠١٨ حين تبدأ الإجراءات الدستورية للانتخابات الرئاسية.
بلغة الحقائق، فإن المعارضة الاجتماعية أقوى من المعارضة السياسية وأشد أثراً محتملاً في مسار الحوادث. ما بين الطبيعي في طلب التنافس الانتخابي وغير الطبيعي في البيئة العامة، تتبدى حقائق الأزمة. القضية ليست من ينافس الرئيس في الانتخابات المقبلة بقدر ما أن تكون هناك قواعد حديثة تضمن سلامة الانتخابات ونزاهتها وبيئة عامة تضفي الثقة على العملية بأسرها.
هناك فارق جوهري بين المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق. الأول، أكثر كفاءة على قراءة أحواله واكتشاف مناطق ضعفه وتصحيح مساره وتجديد نفسه بمد الأمل إلى المستقبل. والثاني، يفضي إلى كتم التفاعلات وانتقالها من فوق السطح إلى ما تحته، فلا نعرف ما قد يحدث حتى تداهم العواصف المسرح كله، واضعة المستقبل بين قوسين كبيرين.
أحد الأسباب الرئيسية للشعور بوطأة الأزمة في مصر أنّ المجتمع ينسحب باطراد من وضع مفتوح باسم ثورة «يناير» إلى وضع مغلق باسم استعادة «الدولة».
بصيغة المجتمع المفتوح، أجريت انتخابات نيابية ورئاسية واستفتاءات عامة على قدر من النزاهة رغم خروقات شابتها بعد «يناير». كان ذلك إنجازاً سياسياً هائلاً ضخّ دماء الثقة العامة بسلامة الإجراءات الانتخابية وسط المصريين العاديين، فوقفوا بعشرات الملايين في طوابير الاقتراع كما لم يحدث في تاريخهم كله.
غير أن التجربة تعرّضت للتجريف السريع، فقد أجريت الانتخابات العامة بلا دستور يضبط قواعد اللعبة ويضمن مدنية الدولة وألا يجري التنكر للوسائل الديموقراطية التي تصعد بها أي قوة سياسية للسلطة. من غياب القواعد تقوّضت «يناير» وجرى اختطاف تضحياتها ورهاناتها على التحول إلى دولة ديموقراطية حديثة، حتى أطل على المشهد من جديد سؤال عمره اثنا عشر عاماً: من ينافس الرئيس؟
في عام ٢٠٠٥، خاض الرئيس الأسبق حسني مبارك انتخابات بين أكثر من مرشح، لكنها بدت كـ«استعراض الرجل الواحد»، نتائجها معروفة سلفاً ولا تتوافر فيها مقومات أي تنافس جدي وفق قواعد تضمن حيدة أجهزة الدولة.
لم يؤسس ذلك لأي شرعية وتصاعد في المجال العام سؤال: «مصر إلى أين؟».
قيمة أي انتخابات عامة في ما تضيفه إلى خزان الشرعية، وهذه مسألة حرية لا قسر واختيار لا إجبار وبيئة عامة تتقبل الاختلاف في الرأي وتقبل الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وفق القواعد الدستورية. البيئة العامة قضية القضايا في أي انتخابات لها صدقية واحترام. الخوف من خوض الانتخابات خشية أن يلحق المرشحين أضرار باهظة من سمعتهم العامة وحياتهم الخاصة جراء حملات اغتيال معنوي حاجز أول دون تقدم شخصيات لها ثقل للسباق الانتخابي وخشية التعرض للملاحقة التالية حاجز ثان. في مثل هذه الأجواء، يصعب الحديث عن انتخابات من ذلك النوع الذي يعرفه العالم الحديث ولا يعترف بغيره.
أسوأ التوقعات أن يتحول الانتخاب التعددي إلى استفتاء مقنّع بنسبة تتجاوز الـ ٩٠٪، فهذه أرقام لا تعكس حقيقة ولا تؤسس لشرعية. كما أنها تحجب حقائق التفاعلات الداخلية التي تراجعت بمقتضاها شعبية الرئيس على نحو كبير لا يمكن إنكاره. قيمة المجتمع المفتوح في قدرته على التصحيح والتصويب وطرح بدائل للسياسات والمسارات ـــ كما حدث في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. في تلك الانتخابات، حصد إيمانويل ماكرون أكثر من ٦٦٪، وعدّت النسبة استثنائية بالنظر إلى الخطر الذي مثّلته منافسته في جولة الحسم مارين لوبن على القيم الجمهورية.
مع ذلك، فإن النسبة التي حصلت عليها لوبن بدت استثنائية هي الأخرى، وعبّرت عن قطاع محبط وكبير وعد الرئيس المنتخب بأن يحاوره. لكل رقم معلن في الانتخابات الفرنسية، كأي انتخابات أخرى نزيهة، له معنى يشير إلى مواطن القوة والضعف في بنية مجتمعها.
من ذلك أن أقصى اليمين بخطابه الشعبوي الذي يحرّض على الأجانب والأقليات، تتمركز قوته التصويتية في المناطق الريفية الأقل حظوظاً بمقاييس جودة الحياة، بينما تتمركز القوة التصويتية، التي منعت صعوده، في المدن الكبرى حيث تميل أغلبية سكانها إلى الاندماج في الاتحاد الأوروبي والانفتاح على العالم.
إذا ذهبت الانتخابات ـــ هنا ـــ إلى استفتاء مقنّع فلا صدقية لأي رقم ولا شرعية لأي إجراء. رغم ترشح ماكرون ضد المؤسسة الحزبية بجناحيها الجمهوري والاشتراكي، إلا أنه في حقيقة الأمر يجدد المؤسسة باسم الثورة عليها.
وهذه تفاعلات طبيعية، مهما كانت شراستها وإحباطاتها، ضمن سياق دستوري ووفق قواعد لا يملك أحد الخروج عليها. المشكلة ـــ هنا ـــ أنه لا توجد مؤسسة حديثة، والأحزاب تقوضت على نحو شبه كامل، وما تبقى يصارع معركة الوجود، والبيئة العامة مرشحة لتدهور إضافي ومكلف. أخطر ما يقال لمصادرة فكرة التنافس إنها تضر بالدولة واستقرارها، وهذا اجتراء على الشرعية الدستورية حيث تنص المادة الخامسة على أنه «يقوم النظام السياسي على أساس التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات والتوازن بينها وتلازم المسؤولية مع السلطة واحترام حقوق الإنسان وحرياته».
المعنى أن التعدد من صلب النظام السياسي ومصادرته خروج عن الشرعية، فضلاً عن أنه لا يلخص الدولة. الكلام بذاته يضعف الدولة ويصورها كياناً هشاً، كأنها لا تقوى إلا بالقمع والتنكيل وعدم احترام الدستور.
في مثل هذه الأحوال غير الطبيعية وغير الصحية، فإن نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع سوف تعاود سيرتها الأولى. حتى ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، شهدت مصر نسباً متفاوتة ومرتفعة أمام صناديق الاقتراع، وإذا ما أخذ الانحسار مداه فإنه سحب على المكشوف من خزان الشرعية.
بالقرب من الانتخابات الرئاسية، فإن القضية الأولى هي البيئة العامة ولا قضية قبلها.
إذا لم تكن البيئة العامة صحية، فإن كل شيء آخر معتل.