تعرف الإشعاعات الصادرة من بدايات عمر الكون "بالموجات الكونية القصيرة الخلفية" (cosmic microwave background) أو اختصاراً "CMB"، وهي تسمح للعلماء بدراسة ماضي الكون لناحية انتشار الطاقة والمادة فيه وسرعة تمدده وحركة المجرات وغيرها من الظواهر والمعطيات الفيزيائية الهامة لفهم الكون القديم وظروف تطوره.
تتكوّن هذه الإشعاعات من "فوتونات" نشأت خلال الانفجار العظيم وانطلقت في مختلف اتجاهات الكون. ومع توسّع الكون المستمر يميل الضوء المنبعث من هذه المجرات نحو الطيف الأحمر، أي أنها تظهر بأطوال موجية أكبر بالنسبة إلى المشاهد، وهذه الظاهرة تعتبر من أبرز الإثباتات أن الكون حالياً لا يزال ضمن مرحلة التمدد أو التوسع في كافة الاتجاهات. ومن خلال شبكة واسعة من المراصد وكذلك من البرمجيات تمكّن علماء الفضاء من رسم خريطة شاملة تمثّل توزع المادة المضيئة على امتداد مساحة الكون. ووفق نظريات الفيزياء الحديثة، يفترض أن يكون هذا التوزّع متجانساً ومتساوياً في كل الاتجاهات، وهو ما يطابق المشاهدات الرصدية، باستثناء منطقة صغيرة من الكون تصدر ضوءاً أقلّ من المتوقع ولديها حرارة أبرد من باقي مناطق الكون القديم. لذلك أطلق عليها اسم "البقعة الباردة"، والتي يحاول العلماء إيجاد تفسيرات علمية لها من خلال عدة فرضيات نظرية محتملة.
التفسير الأولي لهذه البقعة الباردة كان أنها عبارة عن مساحة كبيرة من الفضاء شبه الفارغ، حيث يتواجد عدد قليل من المجرات على امتداد مكاني هائل يصل إلى مليارات السنين الضوئيّة، لذلك تظهر كبقعة باردة بالمقارنة مع باقي أرجاء الكون. لكن الدراسات الأخيرة أظهرت عدم صحة هذا التقدير، إذ أن آخر البحوث التي نشرت في "مجلة الجمعية الفلكية الملكية" البريطانيّة، والتي قامت بقياس دقيق للمسافات الفاصلة بين 7000 مجرّة في منطقة البقعة الباردة وفي اتجاهات أخرى في السماء، أظهرت أن عدد المجرات في هذه المنطقة المرصودة لا يختلف عن عددها في الاتجاهات أخرى. وبعد أن قام العلماء ببناء مجسم ثلاثيّ الأبعاد لتوزع المجرات في الكون، تبيّن أنّ هذه المنطقة لا تختلف عن غيرها من المساحات الكونية لناحية وجود المجرّات فيها. لذلك يجب إيجاد تفسير آخر لبرودتها وضعف انبعاثاتها غير التفسير السابق الذي يقول بوجود فراغ مادي كبير في تلك المنطقة.

سقطت كل التفسيرات المرتبطة بضعف الإشعاع الكوني من هذه المنطقة الباردة

يمكن قياس المسافات بين المجرات من خلال قياس نسبة الانزياح الأحمر في الموجات الضوئية المنبعثة منها، أي من خلال تغيّر أطوال الموجات الضوئية. من خلال هذه التقنية تمكنّ الباحثون من دراسة المجرات الموجودة في المنطقة الباردة، ووجدوا أنها تتوزع بشكل متجانس مع الشبكة الكونية من المجرات مثل أي منطقة أخرى من الكون. أمّا الفراغات الكونية فهي موجودة لكنّها تمتد على مساحات أصغر بكثير ممّا كان مفترضاً، وهذا النوع من الفراغات مألوف على امتداد الكون حيث تتجمع المجرات في كتل معينة وتفصل بين هذه الكتل مسافات فارغة، لكنها أقل بآلاف المرّات عن تلك المساحة الفارغة المفترضة التي توقّعها العلماء سابقاً لتفسير البقعة الباردة. وهذا النوع من الفراغات الكونية موجود على امتداد الكون، وليس هناك ما يميّز البقعة الباردة على هذا الصعيد.
إذاً، سقطت كل التفسيرات المرتبطة بضعف الإشعاع الكوني من هذه المنطقة الباردة، وتبيّن أنّها تتشكل ماديّاً بشكل لا يختلف عن باقي الكون، وبالتالي تبرز على هذا الصعيد أسئلة كثيرة، واحتمال وجود تفسيرات من خارج النموذج الكوسمولوجي السائد حالياً بين العلماء. تفتح تلك المشاهدات الباب أمام أبحاث مستقبلية لتقديم أجوبة حول برودة هذ البقعة الكونية الهائلة، وربط تلك الأجوبة بالنماذج العلمية الكونية التي تفسّر باقي ظواهر ومناطق الكون. إلّا أن تقدّم هذه الأبحاث مرتبط أيضاً بقدرتنا التكنولوجيّة على الحصول على قواعد بيانات ومعطيات أوسع وأعمق حول مكوّنات الكون العميق من خلال المراصد المستقبلية الأكثر تطوراً.
لقد ذهبت مخيلة بعض العلماء إلى وضع فرضيات مثيرة من خارج النموذج العلمي للكون المعتمد حالياً، لكنّها فرضيات غير قابلة أصلاً للقياس مثل تلك التي تقول إن أحد التفسيرات الممكنة هو أن هذه البقعة الباردة هي الأثر الكوني لتصادم ما حصل بين الكون الذي نعيش فيه وأكوان أخرى مفترضة. غير أن هذه الفرضيات لا تتخطى حالياً منزلة الخيال العلمي. حتى التفسير القديم الذي ثبت عدم صحته كان أيضاً تفسيراً غير منطقيّ وغير اعتيادي لناحية افتراض وجود مساحة كونية هائلة شبه فارغة بشكل يناقض التوزع المتجانس للمادة المضيئة في مختلف أرجاء الكون، ووفق نماذج المحاكاة الكومبيوترية لا يتخطى احتمال تشكل هكذا تمايز عن طريق الصدفة سوى 2%. لم يكن ذاك الافتراض مدعماً بنظريات فيزيائية ممّا جعل مسألة سقوطه أمام البيانات الجديدة حول وجود المجرّات داخل تلك البقعة أمراً منطقياً.
إن كلّ ما تمكنّا من القيام به حتى اليوم هو نقض كل التفسيرات السابقة المرتبطة بماهية البقعة الباردة، دون أن نتمكن من تقديم أي تفسير يثبت ماهيتها. إلّا أن نفي التفسيرات الخاطئة هو المدخل السليم للوصول إلى التفسيرات الصحيحة.