يأتي «مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة 2017» (اختتم أخيراً في دمشق) كمحاولة تعويض عن أشياء كثيرة. الحدث نفسه يحاول تعويض «مهرجان دمشق السينمائي الدولي» المتوقف منذ بداية الحرب، إلا أنّه ليس بديلاً عنه. المسابقة الرسميّة مكوّنة من إنتاجات عام 2016 من «مشروع دعم سينما الشباب» (بدأ عام 2012)، وأفلام خرّيجي الدفعة الأولى من «دبلوم علوم وفنون السينما»، الذي أطلقته «المؤسسة العامة للسينما» بالتعاون مع «المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني» عام 2015.
الأوّل خطوة حكومية «استيعابيّة» بالدرجة الأولى. بديل مشوّه عن الصندوق الوطني لدعم السينما، وهو مطلب قديم لاستبدال المؤسسة الغارقة حتى الأذنين في كثير من المشكلات. الثاني محاولة بدائية على طريق أو بدلاً من «المعهد العالي للسينما». كلّها مانشيتات برّاقة من الخارج، تصلح لمبدأ «تسديد الخانات»، الذي تعمل وفقه كثير من الجهات الرسميّة. كذلك، هي عناوين صالحة للاستخدام الإعلامي، من أجل إسكات الأصوات المتزايدة حول آلية عمل المؤسسة العامة للسينما، وارتهانها لأسماء معروفة، فيما يشبه المزرعة التي تدرّ موسماً سنوياً مجزياً. ولكن، هل يمكن للفتات أن يحرف النظر عمّا يحصل على المائدة الحقيقيّة؟
معظم عناوين «مشروع دعم سينما الشباب» (30 فيلماً) راوحت بين الرديء والمقبول، مع وجود التماعات فرديّة تشكلّ الاستثناء المؤكّد للقاعدة. مشاكل ترجع إلى آلية التعاطي، سواءً في قبول سيناريوهات بيّنة الرداءة، أو في آلية تنفيذ لا تمتّ للفن بصلة. يوم واحد من التصوير، وأحياناً بضع ساعات، مهما كانت طبيعة النص. فقر إنتاجي واضح، لا يتناسب مع الميزانيّة الرسميّة على الورق. عمليّات فنيّة تتمّ على عجالة، مع أسماء مكرّرة في الموسيقى وغيرها، بما لا يسمح بتحقيق نضج أو خلق فرادة. لا شكّ أنّ الشاب الطامح للتحقق، هو الضحيّة الأولى لآلية عمل مشروع، انحدرت سويّته عبر السنوات. لفهم أكثر لا بدّ من توضيح نقطة هامّة. المؤسسة العامّة للسينما «مجتمع» قائم بذاته، بما في ذلك من «طبقات» اقتصاديّة وحدود مرسومة، و«حكّام» فعليّين وآخرين في الواجهة، وفئة «عبد المأمور» ممّن لا يملكون سوى التنفيذ، وتأمين قوت يومهم. هكذا، تحوّل المشروع إلى «حصّة» الفئات التي لا يُسمَح لها بتجاوز سقف معيّن، لتبقى بعيدةً عن المناطق الدسمة، أو صامتةً بخصوصها. «يتورّط» الجميع في «مكنة» لا يمكنه التغريد خارجها، إضافةً إلى التفاخر الإعلامي، ورفع أرقام من الإنجازات إلى مستويّات رسميّة عليا. لذلك، من يريد الوقوف فعلاً إلى جانب الشباب المتحمّس، فليدافع عن حقّهم في العمل ضمن شروط شبه طبيعيّة على الأقل. فليتفطّن إلى النتائج العكسية للأفلمة في بيئة كهذه. عندما يتعرّف الشاب «البكر» إلى أساليب ووسائل عمل غير صحيحة، فقد ترافقه مدى الحياة إذا لم يتداركها بنفسه لاحقاً. الحديث يطول في هذه الناحية، ولكن يمكن الجزم أنّ ما سبق لا يمكن أن يراكم أو ينتج جيلاً سينمائياً جديداً أو موجة جديدة في السينما السوريّة.
في الفنيّ، ثمّة مآخذ مشتركة، منها الفهم التلفزيوني أو الكليباتي للفيلم القصير، والإيقاع المنفلت، وغياب الأسلوبية. في المقابل، هناك عناوين مبشّرة، وإن كانت قليلة. منها، «في إطار فيلم» (2017 ــ جائزة لجنة التحكيم الخاصة) لتوليب الزغبي ومجد الزغير، وهما من خرّيجي الدفعة الأولى من «دبلوم علوم وفنون السينما». خيار صائب باللجوء إلى تتابع مشهدي، يعبّر عن هواجس سينمائية، تحاول التحقق والبحث عن ذاتها وفكرتها، استيحاءً من واقع الخراب، ورجوعاً إلى ذكريات الطفولة. اللجوء إلى التجريد والسرياليّة وتداعي المخيّلة، يحرّر الكاميرا، ويفتح آفاق الكادر. ما يتيح مجالاً واسعاً للتجريب واختبار الذات والأدوات. كوادر مضبوطة، مدروسة. عدسة تعرف ما تفعل. إيقاع وأسلوبيّة ولون وتأثير صوتي. عند الانتقال إلى بنية روائية أكثر كلاسيكيّة، سيكون تحدّي الأسلوبيّة أصعب. ولكن، لا يبدو الأمر شائكاً، أمام موهبتين رسما الابتسامة على وجوهنا، قبل أن نصفق من القلب.
على المستوى الفكري، يصل «أفيون» (2017 ــ 14 د) لأسامة عبيد الناصر (1990) بحمولة دسمة. يمكن القول إنّه السيناريو الأنضج في المسابقة. شريط لمّاح، حاد، شائك، يقول الكثير عن بلد وناس وموت وفقد، عن مكان بلا أوكسجين، عن الاختناق واللا جدوى والتبلّد والتكيّف مع الانسحاق بمستوياته، عن تسلل الموت إلى الجوار، واحتلاله مفرداتنا الأليفة وأحلامنا الدافئة. ببساطة ولا مباشرة، يمرّر الكثير ممّا لا تتصدّى له أفلام الإنتاج الرسمي عادةً. يدغدغ اللا وعي باستغراقه في لحظات بعينها، وبقدرة العدسة على قراءة الوجوه وسبر العيون وتيه النفوس (أداء لافت للجين إسماعيل ومجدي المقبل). صحيح أنّ الفيلم يكاد ينطفئ إيقاعياً في مفصل أو اثنين، إلا أنّ اشتعاله مجدداً جزء من جماله وذكائه النفسي. يتوّج نفسه بجمع لافت لخيوطه في ختام لا ينسى. لا غرابة أن يجيء سيناريو أسامة بهذه الجودة. هو الشاب الذي تميّز سابقاً في مسابقات سيناريو، كما يحين فاز نصّه «شادي وسما» بمسابقة سيناريو فيلم قصير حول قضايا الطفولة والإعاقة، التي أطلقتها المنظّمة السوريّة للمعوقين «آمال» بالتعاون مع السفارة الفرنسيّة في دمشق عام 2011. كذلك منحه نبيل المالح المركز السادس في مسابقة «الأصوات الناشئة من العالم العربي» لسيناريو فيلم قصير عام 2013 في دبي، عن نص «نزوح الروح».
من الأفلام اللافتة أيضاً، جديد حسام شراباتي «بترا» (2017 ــ 17 د. ــ الجائزة البرونزيّة). هنا، يكمل السينمائي الشاب (1989) «ثلاثية الزمن» بعد «السوناتا الأخيرة» (2013 ــ 10 د.) و«سليمى» (2016 ــ 15 د.)، لتكون الأشرطة الثلاثة مشروعاً واحداً معبّراً عن صانعه، ومساهماً في صنع هويّة خاصّة به أسلوبيةً وتيمات (إحدى ميّزات شراباتي عن مكرّرين آخرين في المنح). دائماً، لدينا علاقة بين رجل وامرأة (حبيبان، بنت وأب أو رجل بمثابة أب) في وجه ألعاب الزمن، سواءً الراهن أو خطفاً نحو الماضي، أو قفزاً إلى عام 2035، بما يرافق ذلك من تأثّر بواقع بلاد وعسف ومحيط، ليكون التأزيم داخل الشخوص وفي محيطها. كذلك، ثمّة لعب على الإضاءة والأداء بين برودة فتاة (هبة زهرة) وحرارة أخرى (سارة بركة)، وصولاً إلى «تويست» في نهاية الفيلم، خصوصاً أنّ الفتاتين تكمّلان بعضهما بالنسبة للرجل (لجين إسماعيل). الميزانسين وحركة الكاميرا وحجوم اللقطات، كلّها اشتغالات مقصودة، تؤكّد أنّ صاحبها يعرف ما يفعل. نعم، صرنا قادرين على تمييز عمل لشراباتي بعد بضعة لقطات. في الملاحظات، يمكن اختصار دقيقة أو اثنتين، بحذف ما لا لزوم له في حوارات تلفزيونيّة، تكرّر ما تقوله الصورة. ذلك أنّ هذا النوع من الحبكات يقوم في جزء منه على ذكاء المشاهد. النص عموماً يحتاج إلى مزيد من التنضيج.
فراس محمّد وهيثم مسّوح يجتمعان في «45». شريط ذكيّ قائم على التراكم والاحتمال، ومفارقة التقاء مستويات اجتماعية وفكريّة متباينة، إثر تقاطعات متشابهة شكلاً، مختلفة دلالةً. الشابان يتكئان على تيّارات الواقعية الجديدة، وموروث سوريّ كاشتغالات عمر أميرالاي ومحمد ملص ومحمد عبد العزيز. ينهلان من سينيفيلية رفيعة، وتجارب سابقة. في سجل فراس محمد شريطان تجريبيان. روائي قصير بعنوان The Outside (2013 ــ 15 د.) مصوّر بالموبايل، استناداً إلى سينماتوغرافيا اللونين. يرصد التباين الحاد بين داخل غرفة وخارجها، ومفهوم الزمن بالنسبة لشاب يعيش فيها. ووثائقي طويل هو «7 أيام» (2014 ــ63 د.)، في محاولة لإثبات مقولة تاركوفسكي «لا يمكن حمل كاميرا، والنزول إلى الشارع، وتصوير فيلم». هيثم مسّوح يقترح مستوى أعلى من باكورته الروائي القصير «تراك» (2014 ــ 9 د. ــ الجائزة البرونزيّة من مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة 2014)، متناولاً فنّانة تشكيليةً من منظور مختلف.
في «كف.. بحث» (2017 ــ9 د.)، يتجاوز فادي رحمون باكورته «غربة زمن» (2015، ــ18 د.)، منتقلاً من الهواية إلى الاحتراف. يقترح مفارقةً ذكيّة منسولةً من عوالم عزيز نيسن. يجيد الاشتغال على الشخصيّة، والتعامل مع الجموع، والاستفادة من جغرافيا لوكايشن. يلعب على انعكاسات الحاجات الصغيرة على نفوس وجماعات، في زمن الحرب. يقول الكثير برمزيّة رشيقة، لاجئاً إلى كوادر ثابتة، وشريط صوت ضاغط، وسينماتوغرفيا البؤس والحاجة.
ضمن إنتاجات «المؤسسة العامة للسينما»، تعود نادين تحسين بيك بجديدها «الغربة» (2017 ــ 24 د.). تجدّد شراكتها مع الكاتب رامي كوسا، بعد باكورتها «روزنامة» (2015 ــ16 د.). تنجح في تحقيق خطوات إلى الأمام، نحو هوية سينمائية أكثر حنكةً وتمكّناً، بدفق شاعري يلامس شغاف القلب. بالتأكيد، ما زال هناك ما يجب فعله للتخفّف من التلفزيونيّة في بعض الجوانب، مثل أسلوب التقطيع، وإدارة الممثّل (نوع الأداء)، ولحظات قريبة من المباشرة، وهذا يشمل النص أيضاً. لكن، ثنائية نادين تحسين بيك/ رامي كوسا، تبدو في «الغربة» أكثر نضجاً ومسؤوليةً وإخلاصاً. تبشّر بحضور طيّب في التجوال الدولي. شغل الممثّلين يزن الخليل وحلا رجب باعث على الاحترام، ومؤكّد لموهبتهما في الإمساك بالشخصية، وتصدير المطلوب منهما.
في الجوائز، بعضها مستحق. بعضها الآخر يبدو مفاجئاً، نظراً لوجود عناوين أهم من الناحية الفنيّة. من الطبيعي أنّ لكلّ لجنة تحكيم توجهاتها. ربّما فضّلت مضمون أفلام معيّنة على فنيّة أخرى، وهذا يحصل في المهرجانات. في النهاية، لن يصمد سوى الفيلم الحقيقي على المدى الطويل (مهرجانات دوليّة، ذاكرة...). الفيلم غير المستحق سيطويه النسيان، حتى لو نال جائزة أو ما شابه.