الإجراءات الأمنية، والترتيبات اللوجستية، التي استنفرت لها الدولة المصرية كافة أجهزتها، في ظل حالة الطوارئ السائدة في مصر، لم تفسح مجالاً لما يمكن أن يعكِّر صفو ثاني زيارة يقوم بها بابا فاتيكاني لأرض الكنانة، سواء في الترتيبات البروتوكولية، أو في القداس الضخم، الذي ترأسه الحبر الأعظم، وسط مشاركة شعبية حاشدة، والذي أقيم في استاد الدفاع الجوي. وقد بدت صورة القداس مغايرة هذه المرة، بعدما ارتبط اسمه، قبل عامين، بواحد من أسوأ أعمال العنف، المرتبطة بالعشوائية الإدارية والإفراط في استخدام القوة من قبل الشرطة المصرية. ثمة من يرى أن زيارة البابا فرنسيس لمصر، حققت نتائجها المرجوة، حتى قبل وصول الحبر الأعظم إلى مطار القاهرة. فإصرار البابا على عدم تأجيل الزيارة، برغم التفجيرين «الداعشيين» اللذين ضربا كنيسة مار جرجس في طنطا والكاتدرائية المرقسية في الإسكندرية، وقبلهما الكنيسة البطرسية في القاهرة، كان موضع ترحيب من قبل عموم المصريين، الذين رأوا في ذلك رسالة واضحة ضد الإرهاب، من قبل الكرسي الرسولي، سرعان ما استكملتها السلطات المصرية برسالة مماثلة، من خلال «حرفية» لافتة للانتباه في تأمين الزيارة البابوية.
ومع ذلك، فإن الإرهاب أرخى بظلاله على جدول أعمال زيارة البابا فرنسيس، التي بدت مختلفة في بعض جوانبها عن زيارة سلفه البابا يوحنا بولس الثاني ــ أول البابوات الكاثوليك الذين يزورون مصر ــ ولا سيما في تجنّب زيارة دير سانت كاترين، في شبه جزيرة سيناء، التي يشهد شطرها الشمالي نشاطاً لتنظيم «داعش»، لامست نيرانه الدير التاريخي قبل أسبوع من الزيارة البابوية. ومما لا شك فيه، أنّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كان أول من قوّم نتائج الزيارة البابوية بإيجابية عالية، ولا سيما أن البابا فرنسيس، في معظم الكلمات التي ألقاها في مصر، بدا مؤيداً للحملة التي تشنها الدولة المصرية على الإسلاميين المتشددين.
وعلاوة على ذلك، فإنه تجنّب التطرق إلى مسائل تُغضب النظام المصري، من قبيل الحديث عن حقوق الإنسان، وأوضاع المسيحيين، إلا من خلال شعارات عامة مثل «الدين لله والوطن للجميع»، الذي يعود إلى ثورة عام 1919، وتبنّته الدولة المصرية منذ الحقبة الناصرية، بالرغم من أنه أفرغ من مضمونه، نتيجة لعوامل وتراكمات كثيرة.
ويبدو أن البابا فرنسيس قد استفاد من أخطاء سلفه المتنحي البابا بندكت السادس عشر، الذي سبّب أحد تصريحاته توتراً في العلاقات بين الفاتيكان، المؤسسة الدينية التي تمثل أكثر من مليار كاثوليكي، والأزهر، المؤسسة الدينية التي تمثل ما يقارب مليار مسلم في العالم. وفي العموم، فقد تناولت الخطابات التي ألقاها البابا فرنسيس في زيارته لمصر، أربعة محاور أساسية، تمثل الأول في التشديد على الحوار «ولا سيّما الدينيّ»، حيث أكد أن «مستقبل الجميع يتعلّق باللقاءِ ما بين الأديان والثقافات»، وأهمية الاعتراف بالحقوق والحريات الأساسية «ولا سيما الحرية الدينية»، لكون أنّ ذلك يمثل «الطريقَ الأفضل لبناء المستقبل معاً... لأن البديل الآخر الوحيد لثقافة اللقاء هو ثقافة الصدام».
أما المحور الثاني، فكان الدفاع عن الدين، وهنا تماهت تصريحات البابا فرنسيس بشكل كبير مع مواقف شيخ الأزهر أحمد الطيب، في هذا الخصوص، إذ شدد على أن «الدين ليس بمشكلة، بل هو جزء من الحلّ»، مؤكداً «أننا مدعوّون كمسؤولين دينيّين، إلى فضح العنف الذي يتنكّر بزيّ القدسيّة المزعومة، وكشف كلّ محاولة لتبرير أيّ شكلٍ من أشكال الكراهية باسم الدين، وإدانتها على أنها تَزييف». أما المحور الثالث، فسياسي بامتياز، وقد تمثل في التشديد على «أهمية تعزيز السلام، اليوم ربّما أكثر من أيّ وقت مضى»، والتركيز على دور مصر وواجباتها في دفع «عملية السلام» ونبذ الإرهاب، وذلك «بسبب تاريخها وموقعها الجغرافي الفريد، دور لا غنى عنه في الشرق الأوسط»، ولكونها من بين «البلدان التي تبحث عن حلول للمشاكل الملحة والمعقدة». وأما المحور الرابع، فارتبط بالعلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، ولا سيما قضيتا «توحيد العمل بين الطوائف المسيحية»، حيث رحب البابا فرنسيس بفكرة مجلس الكنائس الذي شكلته الطوائف المسيحية الثلاث في مصر (الأرثوذكسية، الكاثوليكية والإنجيلية)، في عام 2013، وبارك الاتفاق بين الطائفتين الكاثوليكية والأرثوذوكسية على إنهاء الخلاف حول «سر المعمودية»، حيث كانت الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية تشترط تكرار سرّ المعمودية للمسيحيين الراغبين في الانضمام إليها من الكنائس الأخرى، باعتبارها لا تعترف بطقوس معموديته الأولى.
وقد يكون اللقاء بين البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب، والكلمات الطيبة التي ألقاها كل واحد على مسمع الآخر، النتيجة الإيجابية الأكبر على الإطلاق، في الزيارة البابوية لمصر، التي أتت لتتوّج مساراً تقاربياً بدأ منذ ما يقارب ثلاث سنوات، وهو ما عبّر عنه رأس الكنيسة الكاثوليكية بعبارات من قبيل أن «الإيمان الحقيقي هو ذاك الذي يحثنا على نشر ثقافة اللقاء والحوار والاحترام والأخوة». ولم تقتصر أجواء التقارب بين بابا الكاثوليك وشيخ الأزهر على العبارات المتبادلة، بل امتدت إلى «لغة الجسد»، حسبما ذكر موقع «كروس ناو» الكاثوليكي، الذي تطرق إلى احتضان البابا فرنسيس للشيخ الطيب بحماسة، كما لاحظ رد فعل الأخير، حين ناداه الحبر الأعظم بـ«الأخ».
ولعلّ تلك الملاحظات تتعدى الطابع التفصيلي في اللقاءات الدينية، خصوصاً أن الحديث عن رأسين لمؤسستين دينيتين كبيرتين شهدت العلاقة بينهما في خلال السنوات الماضية تقارباً تلاه تباعد، على خلفية مواقف حساسة، تراوح بين الديني والسياسي. والمعروف أن العلاقات المصرية ــ الفاتيكانية بلغت أوجها في خلال زيارة البابا يوحنا بولس الثاني، التي شهدت احتفاءً مصرياً دافئاً، على المستويين الرسمي والشعبي. ولكن ما إن رحل البابا يوحنا الثاني وخلفه البابا بندكت السادس عشر، حتى توترت العلاقات المصرية ــ الفاتيكانية لمدة 10 سنوات، على خلفية استشهاد البابا، في محاضرة ألقاها في جامعة ريغينسبورغ في ولاية بافاريا الألمانية، بقول أحد الفلاسفة الذي ربط بين الإسلام والعنف وفكرة الجهاد.

يبدو أنّ البابا تجنّب التطرق
إلى مسائل قد تُغضب
النظام المصري
وأثار كلام البابا بندكت حينها استياء الأزهر، وقام الشيخ محمد طنطاوي، بتجميد الحوار الفاتيكاني ــ الأزهري لفترة عامين، ولكنه عاد مرة أخرى في عام 2008، قبل أن يتوقف مجدداً في مطلع العام 2011، بعد تصريح آخر للبابا بندكت، تعليقاً على تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، حيث طالب بحماية المسيحيين في مصر، مشيراً إلى أن التفجير يمثل اضطهاداً للمسيحيين في الشرق الأوسط، وهو ما رأى فيه شيخ الأزهر أحمد الطيب، تدخلاً في الشؤون الداخلية لمصر.
ولكن يبدو أن المتغيرات التي حدثت في مصر والفاتيكان في خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فضلاً عن المتغيرات الكبيرة التي شهدها العالم، بعد امتداد خطر الإرهاب التكفيري، أسهمت في انجاح مبادرات التقارب من جديد. ففي الرابع والعشرين من تشرين الثاني من عام 2014، قام الرئيس عبد الفتاح السيسي، بزيارة للفاتيكان، تلبية لدعوة من البابا فرنسيس، وقد أكد الجانبان أهمية استئناف الحوار بين الأزهر والفاتيكان من طريق إعادة تفعيل لجنة الحوار المشترك، والبناء على القواسم المشتركة التي تنطلق منها الديانتان الإسلامية والمسيحية.
الزيارة الرئاسية، تلتها بعد أقل من سنتين، زيارة أزهرية، قام بها الشيخ أحمد الطيب، للفاتيكان، في الثاني والعشرين من أيار عام 2014، وكانت الأولى من نوعها في تاريخ المؤسستين الدينيتين، حيث ناقش كل من شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان سبل تنسيق الجهود من أجل نشر ثقافة الحوار والتعايش بين الشعوب والمجتمعات. وعلى هذا الأساس، أتت زيارة البابا فرنسيس لمصر، لتتوج هذ المسار التقاربي، وتؤذن إلى طيّ مرحلة التوتر التي سادت في عهد البابا بندكت السادس عشر، وذلك وفق تفاهمات تراعي حساسية العلاقة بين أكبر مؤسستين دينيتين في العالم، التي لطالما كان مسارها معبّداً بألغام دينية وتاريخية وسياسية خطيرة.