«اثنا عشر موسماً» هو عنوان معرض استعادي للراحل الكبير جبران طرزي (1944- 2010) يقام حالياً في «غاليري صالح بركات». مشروع يعرض حصاد وتاريخ العمل النسكي الدؤوب لهذا العملاق الفني الزاهد، كاشفاً الستارة عن كنزٍ شرقي من الأعمال الفنية المدهشة... هنا في بيروت. وهذا دأب الكنوز المخفية.
معرض لا بد لكل منتمٍ أن يزوره ليتبارك، ويرتشف من الهوية البصرية الشرقية ويطرب، ليدخل أحد مواسم أو فصول جبران طرزي المقاماتية، فلا يترك صالة العرض المتحفية إلا مريداً، لا لجبران قديس اللون، بل للشرق، لكنوزه المخفية التي يظهرها اليوم صالح بركات في هذا المعرض مع كتاب/ مونوغراف صادر عن دار «زمَن» للمؤلف مُراد منتظَمي.
أيصل معنى جوهر ألف الابتداء، وعين العشق، وهاء الهدية لكل راءٍ متكلم لا يجيد اللغة العربية؟ أليس في سلوك طريق اللغة خيار نطقٍ وشهودٍ؟ أليس بنيان مقامات الموسيقى الشرقية خياراً هوياتيّاً؟ عند طرزي هي اللغة العربية نفسها، والموسيقى الشرقية عينها. لوحاته منتمية، نعم لوحاته شرقية. هكذا أرادها، وهكذا أصر على أن يراها الجميع، بخيار واضح وتصميم نسكيّ ديريّ شرقيّ.
كالراهب، اختار العمل بعيداً عن ضجيج الناس للتقرُّب والسلوك. غاب عن ضجيج الساحات الفنية ليصبح قديس الفن البصري الشرقي، ويعبّد الطريق للسالكين بعده.
اللوحات هنا ليست فقط من ألوان، ولا مساحة مسطحة، بل من خشب، من معدن، ومن مرايا!
لا تقف اللوحة عند حدود الثبوت، بل تتحرك، تتبدل، تتغير، تتكون، فيمكن تغير عناصرها من مكان إلى آخر. يمكن تحريك بعضها إلى 24 شكلاً جديداً! ما يذكرنا بعدد ساعات دوران الأرض حول نفسها. حركة أقرب ما تكون لتأليفات جبران طرزي انطلاقاً من القايم – نايم والدوران حول المربع المركزي، كحركة كوكبنا حول نفسه ثم حول الشمس، وتحلُّق المريدين حول القطب، وطوفان قلب النساك بمحيط كعبة الروح أو توجههم التصاعدي إلى الله. طقوس كلها شرقية بامتياز يترجمها جبران طرزي عن قصد أو غير قصد، ناقلاً روح الشرق بتطابق شفافٍ حتى الأخذ مع بنيانه الفكري. يدخلنا في متاهات تدفع إلى التأمل، ثم يدخلنا من أبواب بقناطر إلى مرايا الروح، ينشلنا من صناديق الأفكار المقولبة المستوردة، ليعيدنا إلى شرقنا الجميل.
«قرر أن ينفذ تجهيزاً بالمرايا لمعرض في أميركا، لكنّ الشروط لم تعجبه، فعدل عن المشاركة. عمل بجهد كبير كي ينسق الألوان ويوازن بينها. أنجز التأليف، وصوره، لكن بعد شهر، توفي» تقول لنا زوجته منى طرزي. أن تقف أمام هذا العمل المحاك كنسيج السجاجيد من 25 مرآة مستهلاً دخولك إلى القاعة الكبرى، ثم تجد نفسك بأبعاد داخل مرايا جبران، هو طقس أشبه بالصلاة والتسبيح، ينتمي إلى تلك التراويح أو الروايات الشرقية القديمة، لكنه للمفارقة في الحاضر. ستدمنه، كلما اقتربت أو بعُدت من العمل. هل كان جبران طرزي يريد جذبنا عبرها إلى تلك الأسئلة الوجودية عن علاقتنا بالوجود، ووحدته؟ أو بالألوهة الشرقية وتكويننا، وإعادة التكوُّن مع كل نفس ولون؟
«المرايا هنا مع المعدن هي تأليفة أو تركيبة الدير أي القناطر مع الباحة الداخلية لأنّ جبران كان مأخوذاً بالحياة الرهبانية الشرقية. وفي روايته بالمناسبة هناك القديس سيمون، كان جبران مأخوذاً بالزهاد النساك! كل هذه اللوحات/ التأليفات هي بشكل ما هذا الدير، الصومعة. وبالنسبة إليه، كان يشعر بها بطريقة روحانية إلى حد ما» بحسب منى طرزي.
في حصاد «اثني عشر موسماً» بحسب تقسيمات المؤلف مُراد مُنتظمي في الكتاب الذي حمل العنوان عينه، هناك موسم بلا عنوان، وموسم السقوف أو اللوحة كنظام بيئي، ثم موسم القايم نايم (الطاغي الموجود في كل تشكيل ألفه الراحل الكبير)، وموسم البحرمتوسطي أو الشرق حالماً بالشرق، فموسم الأرابيسك. يذكر مُنتظمي هنا: «أنه حول الأرابيسك وبُعده الميتافيزيقي، كانت تدور الحوارات الأكثر صخباً بينه وبين الفنان الكبير سمير صايغ». وبعد ذلك، هناك موسم الخوارزميات، ثم الموسم اللبناني وانتماءات أخرى، فموسم «معصرة الزيتون» روايته الشهيرة، مروراً بموسم البحر المربع، وموسم الصناديق والمرايا (أو من أجل فن ما فوق زخرفي)، وصولاً إلى موسم الباوهاوس: أو الحوار القادم مع جوزف ألبر، وأخيراً موسم الجنة! أو التجريد الميتافيزيقي.

يشبّه صالح بركات هذه الأعمال بالمقامات الموسيقية


يكمل الزائر رحلته في عالم جبران السحري، ويدور ليصل إلى مجموعة المتبدلات، تشرح لنا منى طرزي: «هذه الأعمال خلقت بالصدفة، لأنه عندما بدأ بالعمل وطلب المرايا، أخطأ النجار وأرسل نصف مرآة. فكر جبران بما يمكنه أن يفعل بها. اخترع هذه المتبادلات، بحيث يمكنك أن تبدلي المربع هنا بـ 24 طريقة مختلفة. والمرايا تتبدّل، واللوحات أيضاً». تشرح كيف وصل جبران إلى الفن: «كان يُفترض أن تكون هذه أسقفاً، لكنها تحولت إلى لوحات. لقد بدأها كنموذج لسقف، وقسّمها إلى أربعة أجزاء، ومع فسحة لتعليق النور في المنتصف لأنّه قبلها كان قد أنجز صناديق ومرايا. ثم قال أريد أن أصمم وأنجز سقفاً يناسبها. راح يعمل بجهد على هذا السقف من دون أن تعجبه النتائج، فيغير الألوان. يقول هذا اللون ليس به حياة، فيغيّره. وذاك ليست به روح، فيغيّره، إلى أن وجد نفسه يقوم بهذا العمل، فغرق به بفرح وشغف إلى أبعد الأعماق».
كان طرزي يعمل على مدار الساعة ويعيّر المنبه كل ساعتين ليسقي الألوان، فلا تتغير قيمة اللونية بعد الجفاف. يمارس طقوسه الفنية الشرقية تماماً كما يرسم، بالتكرار نفسه للوحدات، ككل عمل شرقي يعتمد على الوحدات المتكررة. كما تنقل عنه زوجته: «هو يقول هي أشبه بأغاني أم كلثوم، حيث تردد الكلمة نفسها، لكن كل مرة بطريقة ومقام مختلفين. هي إذا ترنيمات شرقية». وتضيف: «عندما يصل عمله الأدبي أو الفني لأحد ما، كان جبران مصراً أن يُعرف أن هناك رجلاً شرقياً خلف هذا العمل».
والجدير ذكره هنا أنه في هذا المعرض الاستعادي، الرسماتُ على ورق صغير، هي خلاصة فكرية ناتجة عن الأعمال. هي حصيلة وجدت نتيجة التجربة العملية في اللوحات لا العكس.
والأهم هنا ـ غير المستوى التقني العالي الجودة في التلوين والتأليف وتوازن القيم اللونية، كما تغيّرات السلم اللوني ودرجات الألوان وتوزيعها حتى حدود الإطار الخارجي بتفاصيله الميلليميترية- هو التأليف الذي يلحق حركةَ القايم نايم. وهي وحدة تأليفية شرقية حيث يكون هناك مستطيلان متلاصقان على شكل أفقي، واثنان على شكل عامودي. يترابطان عبر زاوية قائمة حول مربع مركزي، ليولد منهما مربع جديد. حاول صالح بركات إعادة ترجمتها عبر سينوغرافيا المعرض بحركة شبع مربعة بين قايم ونايم في وسط القاعة الكبرى للعرض.
«بشكل عام، هو يعود الى حركة بارمة، إلى دوران، والقايم نايم هي حركة شمسية، لأنها تدور. لذا ما تجدونه في الأعلى إلى شمال اللوحة، ستجدونه في الأسفل على اليمين. اللوحة تدور، لكن في كل مرة نسبة إلى التركيبة والتأليف، فإن القلب يكون مختلفاً كلياً. لا شيء يتشابه رغم أننا عندما ننظر للوهلة الأولى، نظن أنها متشابهة».
يضيف بركات: «ذهب جبران إلى الغرب، واطلع على الفن الغربي، لكنه عاد إلى شرقيته! عاد إلى التراث الأساسي الخاص بنا. حاول عصرنته عن طريق عمل هائل، أكان على مستوى البحث اللوني، أم البحث الفكري أو النظري. صحيح أنّه انطلق بداية من المجالات الحرفية لعائلته المعروفة في هذا المجال، لكنه ذهب من حدود الـ motif الشرقي إلى المعاصرة، من التجربة الأميركية إلى التجربة النظرية. واستطاع أن يزاوج بين الحداثة والمعاصرة. ثم هناك نقطة مهمة أنّه عمل في مجال الفنون البصرية والأدب معاً، أي بالصورة والنص، مع كل ما يتضمن ذلك من إشكاليات تحديداً في الثقافة الشرقية، حيث هذا المكان ملتبس دوماً بين النص والصورة».
عن أبرز ميزات عمله، يعلّق بركات: «إتقانه فظيع. أعتقد أنّه كبير من بلادنا، شاءت الظروف أن لا يعطى حقه سابقاً. لست أدري لماذا: هل لأنه أصر على نوع من الفن الشرقي في مرحلة كان يجب على الفنان أن يقدم ما هو غربي أم لأنّ الحرب أتت؟ ما أعرفه أنه كان عنده إحباط كبير بأنّه لم يُقبل كفنان، واعتقد أنّه حان الوقت لإعادة الاعتبار لهذه القامة الكبيرة وهذا النتاج الخرافي».
يعيد صالح بركات تشبيه الأعمال هذه بالمقامات الشرقية للموسيقى، طارحاً التساؤل عما إذا كانت هذه التجربة الفنية الشرقية العملاقة يمكن أن يقيِّمها إنسان ذو أصول غربية. يقول: «أشعر أنهم ينظرون، ويقولون هناك ناحية حرفية. وهذا كان مقصوداً عملياً لا لأنّه لم يكن باستطاعته التخلي عنه، وإنما أراده جبران».
هو إذاً بحث بصري تأليفي وفكري يشبه التوازي بين رحلة الموسيقى الشرقية ورحلة الموسيقى الغربية. يضيف بركات مثلاً إيضاحياً: «عندما نسمع أم كلثوم يمكن أن يتوقف الزمن، أن تمر الساعات من دون أن نشعر. هذا هو الفعل الطربي الموجود في الموسيقى الشرقية، والفن الشرقي عموماً. نطرب ولا نستوعب ماذا حصل. هذه المقامات الموسيقية المتنوّعة، ربما يظنها الناس لوناً واحداً، ولكن لا، هي تنويعات لا متناهية!»
هي الدعوة الى الطرب في الفن الشرقي، جرعات اللون، حركة العين تنساب كما الماء في المكحل الذي زينها جبران طرزي بتنويعات مدهشة. دعوة بما نحن، بشرقيتنا، بمنطقنا، بجمالياتنا... هي دعوة أيضاً لتكريم العمالقة الذين يبنون الطريق لنا ويرحلون تاركين الكنوز لنا، زاهدين.

«اثنا عشر موسماً» لجبران طرزي: حتى 6 أيار (مايو) ـــ «غاليري صالح بركات» (كليمنصو ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01365615