من يحسم الرئاسة الفرنسية: إيمانويل ماكرون، أم مارين لوبن؟ وفق استطلاعات الرأي العام، فإن فرص الأول شبه مؤكدة، وحظوظ الثانية شبه مستحيلة. مع ذلك، فإن هناك من يحذر من مفاجآت تقلب المعادلات السياسية رأساً على عقب ــ كالتي صاحبت صعود دونالد ترامب بخطابه الشعبوي إلى البيت الأبيض، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باستفتاء دعا إليه رئيس وزرائها السابق ديفيد كاميرون، وأطاحه من منصبه.
خشية الانقلابات المفاجئة تعبير صريح عن اضطراب سياسي تعانيه فرنسا بتآكل الثقة العامة في مؤسساتها الحزبية، التي تداولت السلطة على مدى نحو ستة عقود منذ تأسيس الجمهورية الخامسة. كلا المتنافسين على المنصب الرئاسي جاء من خارج السياق: ماكرون يطلب تجديد المؤسسة باسم الثورة عليها، ولوبن تطلب انقلاباً كاملاً في قيم الجمهورية الفرنسية رغم سعيها لخفض حدة الخطاب حتى تكسر حلقات الحصار عليها.
بأي درجة يكون التمرد على المؤسسة؟ ذلك هو موضوع الصراع، الذي ينطوي على رؤيتين للعالم ــ كما يُقال عادة في فرنسا. بصورة أو بأخرى، فإن «أفيال المؤسسة» حاضرة في المشهد وحاسمة فيه، رغم هزيمتها المهينة في صناديق الاقتراع. بنفس القدر، فإن كل شيء سائل وملتهب في المشاعر العامة وكتل التصويت يصعب أن تتحكم فيها تلك الأفيال.
رغم استدعاء سيناريو الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٢، التي حسمها الرئيس الأسبق جاك شيراك بنسبة ٨٢‪.‬٢ في المئة، في مقابل ١٧‪.‬٨ في المئة لجان ماري لوبن، مؤسس حزب «الجبهة الوطنية» الذي أطاحت به ابنته الطموحة في انقلاب عائلي، وهو سيناريو يفترض درجة عالية من التماسك والتوحد بين مكونات الحياة السياسية لوقف تقدم اليمين المتطرف، فإنه لا يمكن إغفال أن فرنسا تغيّرت بعمق على مدى خمسة عشر عاماً تولى الرئاسة فيها شيراك، ونيكولا ساركوزي، اليمينيان، وفرنسوا هولاند اليساري، الذي لم يترشح لدورة ثانية بإدراك أن شعبيته تقوّضت وأنه ليست لديه فرصة لربحها، بينما لم يصل سلفه إلى ذات الاستنتاج وخسر الانتخابات السابقة، كما خسر سعيه للترشح مجدداً في الانتخابات الحالية باسم حزبه.

يبدو ماكرون اختراعاً
سياسياً في وقت حرج لمنع دخول لوبن الإليزيه


أرقام الاستطلاعات التي أعقبت الجولة الأولى، تعكس مستوى التدهور ومداه. فماكرون يحظى بنسبة دعم ٦١ في المئة، في مقابل ٣٩ في المئة للوبن.
الأرقام موحية بتدهور قيم الجمهورية، التي أضفت على فرنسا ثقلها المعنوي في عالمها وألهمت دولاً وشعوباً، تمهد لانقلابات شعبوية قد لا تتأخر كثيراً.
نحن نتحدث عما يقارب نصف الفرنسيين، مستعدون لمنح أصواتهم لليمين المتطرف ــ بذرائع الأمن والهرب من الأسباب الحقيقية لما تعانيه بلادهم من أزمات وتشيع في أوساطهم ثقافة معادية للإسلام وكل ما يرتبط به، بينما النصف الآخر لم يعد يتردّد في استخدام مصطلح «الإرهاب الإسلامي» بكل ما يحمله من رسائل سلبية.
نسبة الدعم المفترض للوبن في جولة الحسم منذرة بتداعيات مستقبلية. إذا عُطلت اليوم، فإنها مقبلة لا محالة. مع ذلك، فإنه لا يجب التهوين من قدرة الإرث الثقافي الفرنسي على المقاومة والصد ورفض تعليق الأزمات على المهاجرين والأقليات العربية والإسلامية والإدراك في نفس الوقت أن اليمين المتطرف وجماعات الإرهاب يتغذى كل منهما على خطاب الآخر، وقد عزز حادث الشانزليزيه الإرهابي (يوم الخميس الماضي) فرص لوبن، التي لم تتورع عن توظيفه وعن نسب أزمات فرنسا إلى الحدود المفتوحة مع الدول الأوروبية وتحكم الاتحاد الأوروبي في القرارات السياسية والاقتصادية والأمنية.
في المعادلة نفسها، فإن جماعات العنف والإرهاب تحتاج إلى الخطاب اليميني المتطرف لكي تجند وتروع وتختطف الإسلام كله. ربما تتحسن فرص المرشحة المتطرفة إذا ما جرت عملية إرهابية جديدة قبل جولة الحسم في ٧ أيار/ مايو.
بصورة ما، يبدو ماكرون اختراعاً سياسياً في وقت حرج لمنع دخول لوبن قصر الإليزيه على أنقاض مؤسسة فقدت صدقيتها. هذه هي المرة الأولى التي يخوض فيها أي انتخابات، وهو بلا خبرة سياسية يُعتد بها، عكس أسلافه من الرؤساء الفرنسيين. برنامجه أقل تماسكاً من برنامج فرنسوا فيون اليميني الجمهوري الذي حلّ ثالثاً في الجولة الأولى، وشخصيته أقل كاريزمية من جان جاك ميلانشون، اليساري المتشدد الذي حلّ رابعاً بفارق ضئيل.
صعد نجمه على حساب مرشحي الحزبين الكبيرين بأثر تقوّض الثقة العامة في المؤسسة الحزبية التقليدية كلّها والضجر بوجوهها وصراعاتها ومعدلات الفساد العالية في بنيتها وعجزها عن حلحلة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بصورة مرضية.
بين الأطلال المتداعية للمؤسسة، فهو مرشح أن يدخل بعد أيام قصر الإليزيه. لا يمكن أن يُعزى ذلك الصعود (الذي لم يكن متوقعاً على أي نحو وبكل حساب قبل عام واحد عندما شرع في تأسيس حركة سياسية جديدة أطلق عليها «إلى الأمام»)، إلى تلك الحركة الناشئة وقدرتها على إلهام طريق جديد لفرنسا.
بالتكوين السياسي، فهو يمين وسط وأقرب إلى حزب «الجمهوريين» من الحزب «الاشتراكي» الذي تولى موقعاً وزارياً في حكومته، في عهد الرئيس هولاند.
درج الإعلام على وصفه بـ«مرشح الوسط»، وهو تعبير يحتاج إلى تدقيق، وقد لا يعني شيئاً ممسوكاً في التعرّف إلى شخصية الرجل الذي يوشك أن يدخل التاريخ كأصغر رئيس أو حاكم منذ نابليون بونابرت.
هناك فارق بين الأوصاف الإعلامية والانتخابية، وبين البرامج والسياسات التي سوف يتبعها. فرغم أنه يخاطب الرأي العام الضجر من المؤسسة باسم الثورة عليها، إلا أنه في حقيقة الأمر يضخ دماء جديدة فيها كأنه اختراع بالوسائل الديموقراطية لتجديد المؤسسة لا نفيها.
بصورة ما، فإن ما قاله الرئيس الفرنسي هولاند (الذي تُشارف ولايته على الانتهاء)، من أن «ماكرون هو أنا»، يُصادف الحقيقة من حيث التوجهات العامة.
لم تكن مصادفة أن الاتحاد الأوروبي تنفس الصعداء بعدما تصدر ماكرون الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية، وتوجه كتل رئيسية من الحزبين التقليديين لدعمه في جولة الحسم، فهو مؤيد للاتحاد كما أنه ينزع لذات الخيارات الدولية التي انتهجها سلفه، ربما بشيء من التعديل المحدود لكنه لا انقلابات داخل المؤسسة ولا عليها.
بذات القدر، فإنه يحظى بدعم كبير وواضح من التكتلات المالية بثقلها في الصياغة العامة لتوجهات المؤسسة.
القضية الحقيقية الآن ليست أن يفوز ماكرون، ذلك شبه مؤكد إذا لم تفلت الكتل التصويتية بالغضب أو الاحتجاج بالامتناع عن الذهاب إلى لجان الاقتراع أو التصويت بأوراق بيضاء، بقدر ما هي الاستجابة لمتطلبات التغيير في بنية المعادلات السياسية الفرنسية دون إخلال بقيم الجمهورية.
هذه ليست مسألة هيّنة، فالرئيس القادم بلا سند حزبي في البرلمان والمحليات، وبلا آلة سياسية تسند سياساته وسط رأي عام مضطرب قد ينظر إلى التوافقات المحتمة التي سوف ينتهجها مع «أفيال المؤسسة»، كأنها خديعة.
*كاتب وصحافي مصري