هو صائغُ أسئلةٍ لا أكثر. لكأنه، في كلّ ما كتبهُ وفَكَّـرَه، يَستعينُ على العقلِ بالحيرةِ ليجعلَ من السؤالِ مقصداً، ومن الـتَـوَهانِ في الميدانِ غايةً للسباقِ (سباقِـهِ مع نفسِه) الذي لا ينتهي... ولا يُرادُ لهُ أن ينتهي.

هو واحدٌ من أولئك الـعَـدّائين الممسوسين الذين «يُــتَـوِّهون» أنفسَهم عمداً. بل وأحياناً يَـتَقَـصّدون الجريَ عكسَ اتجاه المضمار، ليَغتبطوا جولةً بعد أخرى ببلوغِ «الصِفْر».. الصفرِ الثمين والمقدّس، الذي (إليه ومنه) تَتوجّهُ وتنطلقُ جميعُ أحلامِ العدّائين، والسَـحَرةِ، والشعراءِ... والمجانين: «الصفرِ الذهبيّ».
صائغُ أسئلة؟ بلى..
الأسئلةِ الصائبةِ التي، بعدها، تَصيرُ أرفعُ الإجاباتِ نشازاً وأخطاءَ عقل.
في كلَ نزهةٍ داخلَ كتاباته، يُوهِمُـكَ عادل محمود أنه لا يقولُ شيئاً، بل ولا يسعى إلى التبشير بشيءٍ أو إيصالِ شيء؛ لتكتشفَ في نهايةِ الرحلة أنكَ قد بلغتَ العتبةَ الأخيرةَ للجمال: الجمالِ الهيِّنِ، الجمالِ العَطوفِ، الجمالِ الذكيّ، الجمالِ اللَّبقِ، الساذجِ والـمُغوي، الجمالِ الذي - بدون أنْ يَـتَـقَـصّدَ، وبدون أن تنتبه- يكون قد أوقعكَ في كمينِـه... وقُضيَ الأمر.
يكتب كأنما ليَـتسلّى، أو كأنما ليُطلقَ زفرةً في نهايةِ الـمُرتَقى (المرتقى الذي لا نهايةَ له).
يكتب لأنّ لديه، في موضعٍ ما من ذاكرتهِ أو ضميرهِ أو حَـوَيصلاتِ دماغهِ وقلبه، فائضاً من السمّ /الحبرِ السمّ/ لا بدّ من نَـزْفِه:
يكتبُ كي لا يقعَ في الموتِ على حينِ بغتة. يكتب ليقول: هكذا، بهذه الرشاقةِ والأناةِ واللَّطافةِ والـحُنوّ.. تنبغي صناعةُ الموتِ واستِدراجُ مخلبِـه. حتى لكأنهُ، في سعيِـهِ إلى ما يَـتَـوهّمُ أنه توثيقٌ لسيرةِ حياتِـهِ، لا يكتبُ (مثلُـهُ مثلُ كثيرين من مُـعْتَـنقي «ديانةِ العيش») إلاّ شهقةَ احتضارِهِ/ احتضارِنا أجمعين؛ ولا يَنقشُ (مهما حاولَ أن يبدو راضياً وسعيداً) إلاّ شاهدةَ «ملجئهِ»/ ملجئِـنا الأخير.
يكتبُ، ليجعلَ الموتَ أرحَمَ، وأَبـهَجَ، وربما.. أطيبَ مذاقاً. يكتب لأنّ تحت الألسنةِ (ألسنةِ المحتضرين) كلاماً يريدُ أنْ «يَنكَـتِب».
قلتُ: «يكتب»؟..
نعم، قلتُ وأخطأت. ولَعَـلّي كنتُ أقصدُ: يُضيفُ إلى الشاهدةِ الأزلـيّـةِ «سؤالاً» آخر.

* من مقدمة كتاب «الموت أقدم عاصمة في التاريخ»
الصادر أخيراً عن «دار التكوين» في دمشق