أزهر الفصل الثقافي الجديد في بيروت عدداً من المراكز وصالات العرض، آخرها «أفكار آرت غاليري» في الحمرا. صالة فتِيّة، لا تتحدى، بل تتعاون مع الكلّ لبث فكرها المنتمي، بين ما يقارب 80 صالة وغاليري في لبنان.
تجربة يخوض غمارها مدير الصالة محمود شبر. تشكيلي عراقي طموح، اختار افتتاح «أفكار» بمعرضٍ فردي لزميله وصديقه الفنان العراقي سلام عمر. لكن لمِ بيروت؟ ولمِ الآن؟ وماذا تريد أن تقول هذه الـ «أفكار»؟ أربع عشرة سنة على «سقوط» بغداد على يد الاحتلال الأميركي في نيسان (أبريل) 2003. 14 سنة من نهب للأرض، ومحاولات طمس الفكر وتشويه الثقافات. وما زالت الارتكابات مستمرة عبر تدمير كل أثر حضاري وفني لبلاد الرافدين. لكن أحقاً تسقط بغداد؟ البصرة؟ أور/ الناصرية؟ نينوى/ الموصل؟ أتطمس أقدم حضارات الدنيا؟ فنياً، لا. لا سقوط، بل قيامة آتية لا محال... عبورٌ إلى الحياة. من نيسان الاحتلال مروراً بالنيسانات الداعشية على أرض العراق، إلى نيسان الابتكار اليوم، ما زال الشباب العراقي يغرس مقاومته في كل أرضٍ علّها تثمر صرخات فنية. يخوض تجاربه في كل سوح النزال، يذكّر الدنيا بما قاساه ويقاسيه عراقه، وينافس في أهم بقاع الأرض. يعود نيسان هذه السنة بثمارٍ عراقية بصَرية ملوّحة بعزة التصدي، وصدق المحاكاة لروح العصر وقلب الحدث. قوامها الجوهري؟ صرخة ضد كل الاحتلالات.
المفارقة أنّ الصرخة العراقية هذه تنطلق من نيسان بيروت، نيسان ذكرى الحرب الأهلية، ونيسان مجزرة قانا. من ساحة فنية أبت أن يدمرها أي شكل من أشكال الإرهاب والحروب، لتؤكد مرة جديدة على أن قلب بيروت النابض مثلٌ يحتذى به. والأهم أنه يتسع للكل، فكيف بمن قاسى مثله؟ بيروت لم ولن تنثنِي عن دورها الريادي كمحرك للعجلة الثقافية والفنية في المنطقة العربية. على خلاف عواصم السوق الفنية، ورغم كل عوامل قوة البورصات الفنية في الجوار، تبقى بيروت الحقل المغناطيسي الأول الجاذب للتشكيليين من مختلف الأقطار العربية.

تنظيم معارض لعلاء بشير
الذي يعتبر معلّم السريالية

«بيروت مدينة لا سقف لها. هي تتحمل الجميع!» يجيبنا الفنان العراقي القدير أحمد البحراني عندما نسأله عن سبب إصرار كل الفنانين العرب، وتحديداً العراقيين، أن يمرّوا من خلال بيروت. ويضيف: «الفنان العربي يأخذ ختم نجاحه من بيروت. ميزة هذه المدينة وأهلها أنهم يستوعبون الجميع. يعني لستَ مضطراً أن تتلبنن حتى تمارس فنك. لذلك أقول دوماً إنّ بيروت مدينة لا سقف لها!».
يؤكد مدير الغاليري محمود شبّر ما قاله زميله وصديقه البحراني: «أتينا ليس من باب أن نكون منافسين بل لأنّ عندنا طروحاتنا الخاصة التي نوصل عبرها صوتنا كفنانين ومفكرين، ومثقفين، كنخبة إذا جاز التعبير. نستطيع أن نوصل هذا الهم الجمالي والإنساني الذي نعيشه. وبالنتيجة «أفكار» ولدت من هذه القضية. وبيروت الآن أصبحت وطناً لنا. أعيش هنا في بيروت منذ 6 سنوات. أكاد أكون جزءاً من هذه المدينة».
الغاليري عبارة عن قاعة صغيرة في مبنى «الكوستا» (الطابق الرابع) الذي كان محجة للفنانين المسرحيين والتشكيليين والمثقفين قبل زمن. يجلسون في مقهى طابقه الأرضي (الـ «هورس شو» حينها). وأخيراً، بات يحوي في طوابقه بيوتاً فنية أو غاليريهات (مثل «آرت سبيس حمرا»)، لتأتي «أفكار» وتكمل تركيب جزء من صورته الفنية والرمزية اليوم.
هو عامل جذب قوي إذاً، لكن الإقدام على مغامرة طموحة له أسباب أكثر من مادة الجذب، فلا بد من وجود طرح فكري مختلف وراء هذه الصالة. يجيب شبَّر بتلك النفحة الشاعرية التي تميّز معظم تعابير الشباب العراقي: «فكرة الغاليري هي طموح عندي بأن أترك بصمة في بيروت. بيروت معترك جمالي وثقافي مهم. وهي أمنية لديّ بأن أكون ضمن هذه المنظومة التي تعمل في مجال الثقافة والجمال، وتكون لنا طروحاتنا الخاصة النابعة من هموم المنطقة اليوم من ضياع ودمار ومحاولات تقسيم وتهشيم وإقصاء!». هنا يؤكد أمراً هاماً، بأن الغاليري ليست عراقيةً صرفاً، بل هو يختار الأعمال النابعة من صميم ما يدور الآن في المنطقة والعالم وقلب الحدث ليقدمها عصارة بصرية للرائي.
يدرك شبّر ما هو مقدم عليه. عدا الصداقة التي تربطه بعدد كبير من الفنانين وجامعي اللوحات، هو دقيق في اختيار الأعمال، أولها اختياره معرض الافتتاح لسلام عمر (راجع المقال أدناه). يعلّق: «نحن نقدم المفهوم/ الكونسبت المرتبط بناسنا وأهلنا ومجتمعاتنا. افتتحنا بسلام عمر الذي كان جاهزاً، يليه البحراني، ثم علاء بشير الذي يعتبر معلّم السريالية. عندنا أسماء مهمة لفنانين لبنانيين لن نفصح عنها الآن، وأخرى يتم التفاوض معها».