دمشق | في منزل متواضع في منطقة برزة على أطراف دمشق، استقر حسن (12 عاماً) مع عائلته بعد رحلة رعب مريرة عاشوها خلال الأعوام الماضية. الفتى العائد إلى مقاعد المدرسة بعد انقطاع يقارب العامين، أمضى ستة أشهر منها في أحد مخيمات اللاجئين في الأردن، والباقي في رحلة النزوح والتشرد. لا تغيب عن عينيه نظرة القلق والخوف، ورغم عفويته المحببة في الحديث، فإن كوابيسه تركت علاماتها على محيّاه.
يخاف حسن من الضياع مرة أخرى، ومن الابتعاد عن أسرته، وحتى الساعات القليلة التي يقضيها في المدرسة كفيلة بجعله يغرق في قلقه. وهو يخجل لكونه يطلب من والدته انتظاره بعد انتهاء المدرسة لترافقه إلى البيت. وتعود مأساة حسن إلى حوالى الأربع سنوات، حينما قررت عائلته، بسبب اشتداد القتال في ريف درعا، النزوح باتجاه الأردن. وخلال رحلة الفرار هذه، فقدوا حسن وبحثوا عنه طويلاً، وتأخروا عن بقية الفارين من أبناء قريتهم، لكنهم اضطروا إلى إكمال الرحلة تحت ضغط الخوف، ليصلوا إلى أحد مخيمات اللجوء الأردنية، فيما تضاربت الأخبار حول مصير الفتى لأشهر قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى معلومة مفيدة عبر التواصل مع جهات إغاثية عدة، لها علاقاتها داخل سوريا والأردن.
تقول والدة حسن إن الدمع لم يفارق عينيها بعد فقد ابنها، وتوضح أنهم لم ينتبهوا إلى فقده ــ خلال رحلة الفرار ــ إلا بعد مدة ليست بالقليلة. إذ كان عدد الخارجين من القرية كبيراً، وظنّت أنه كان بصحبة أبناء عمه، وحينما فقدهم حسن عثر على أحد أقارب العائلة ممن يقيمون في قرية أخرى، ممن كانوا متجهين بدورهم إلى الأردن، فأكمل مسيره معهم، وأقام عندهم هناك.

«جحيم» بابا عمرو

قصص كثيرة مشابهة لقصة حسن عاشها العديد من الأطفال السوريين خلال أعوام الحرب، وبينما فقد بعضهم التواصل مع عائلته ضمن ظروف خارجة عن إرادتهم، فإن آخرين اضطروا إلى ذلك بناء على رغبة العائلة في منحهم فرصة جديدة في الحياة.
يقول أحد متطوعي منظمة الهلال الأحمر السوري إنهم شهدوا مثل هذه الحالات منذ سنوات عدة، بالتزامن مع أحداث حي بابا عمرو في مدينة حمص. ويوضح أن الظروف الأمنية التي كانت تعيشها المنطقة تسببت بحصار الكثير من العائلات، وتمكن بعضهم من الفرار بواسطة مهربين مقابل دفع مبالغ مالية، فيما قرّر من لم يتمكن من الفرار تهريب أولاده وإرسالهم مع أقارب أو معارف، على أمل أن يلتقوا ثانية في حال انتهاء الحرب.

خلال رحلة الفرار
فقدوا حسن وبحثوا عنه طويلاً

ويضيف المتطوع، الذي رفض ذكر اسمه، إنه خلال عمله في تلك الفترة، استقبلوا في الفرع عدة أطفال قادمين من تلك المنطقة، ممن أوصلتهم رحلتهم المجهولة إلى ريف دمشق، وتاهوا في شوارعها لكونهم لا يعرفون أحداً فيها. كما تعامل مع عدة حالات من الأطفال الذين أوصلهم أقاربهم إلى المكتب لعدم قدرتهم على الاعتناء بهم.
ويضيف إن المنظمة لم تكن مستعدة لمثل هذه الحالات، فكان الحل بالتواصل مع دور الأيتام ومراكز الرعاية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية لإيداع هؤلاء الأطفال، لكن جهودهم لم تثمر حينها، حتى عمدت إحدى الجمعيات الى اتخاذ المبادرة وقررت الاعتناء بهؤلاء الأطفال الذي بلغ عددهم 23 طفلاً، واستأجرت لهم مقراً خاصاً وتحملت مسؤولية رعايتهم والاعتناء بهم.
لا يحتاج هؤلاء الأطفال إلى الرعاية فقط، بل إلى آلية بحث جادة تمكنهم من العثور على عائلاتهم المجهولة المصير. وتشير إحدى متطوعات «الهلال الأحمر» إلى أنهم يحاولون الحصول من الطفل على اسمه الكامل الصحيح، ويتواصلون مع الشؤون المدنية لتزويدهم بمعلومات عن عائلة هذا الطفل وعنوان سكنهم، وأي تفصيل قد يساعد في العثور عليهم. وتضيف إنهم وظفوا مواقع التواصل الاجتماعي لمساعدتهم في مهمة البحث من خلال نشر صورة الطفل وطلب المساعدة في الوصول إلى أي فرد من أفراد العائلة. وتلفت إلى أنهم نجحوا في بعض المرات وتمكنوا من لمّ شمل أفراد العائلة، لكنهم فشلوا في مرات أخرى، ليبقى الأولاد في مراكز الرعاية.

حالات نادرة في دمشق

في المقابل، توضح الناشطة في إحدى فرق العمل التطوعي المعني بالعمل مع أطفال الشوارع، نبراس دكاك، أن الظاهرة ليست منتشرة بكثافة داخل دمشق، وأنها من خلال عملها التقت بحالة واحدة لطفلتين خرجتا مع والدتهما من مخيم اليرموك وسكنوا في حديقة عامة، قبل أن تفقدا التواصل مع والدتهما وتبقيا وحيدتين في الحديقة، ليتم بمساعدة الجيران إيداعهما في إحدى دور الأيتام حتى عودة والدتهما.
وتضيف دكاك إن التعامل مع هؤلاء الأطفال صعب للغاية، والحصول على معلومات منهم ليس بالأمر اليسير، بالإضافة إلى أن بعضهم قد يميل إلى الكذب ويقدم قصصاً وهمية، فقد يكون الطفل هرب من منزل العائلة بسبب ضغط ما أو تعذيب يتعرض له، وفضّل البقاء في الشارع أو الذهاب إلى أحد الملاجئ.