أسونسيون | لا تختصر التجاذبات السياسية في الباراغواي أزمة محلية فحسب، بل تمثل صراعاً إقليمياً في وقت باتت فيه أوراق اليمين اللاتيني راجحة على مكتسبات اليسار الذي انهار مرحلياً في البرازيل والأرجنتين، والآن يترنح في فنزويلا وبوليفيا، مع أنه بقي صامداً في كل من الأوروغواي والإكوادور وتشيلي.
أما الباراغواي، التي تحتل مع كولومبيا مركز الثقل اللاتيني بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، فإن أي أزمة سياسية داخلية فيها تتحول إلى نقطة تجاذب إقليمية، لأن هذا البلد الفقير بسبب مقدراته الاقتصادية غني جداً في دوره الاستراتيجي وموقعه الجغرافي الذي يشكل كماشة حدودية مهمة.
الحدود المشتركة بين الأرجنتين والباراغواي تمتد على أكثر من 3500 كلم، نحو نصف هذه المساحة تشكل حدوداً مائية تتحكم هي بمعظم ثرواتها، فيما تتقاسم مع البرازيل 630 كلم من الحدود المائية و315 كلم من الحدود البرية الاستراتيجية. أما مع بوليفيا، فتتشارك حدوداً برية تصل إلى 731 كلم ومائية إلى 31 كلم.
بالعودة إلى الداخل، انفجرت الأزمة السياسية في البلاد بعد تصويت مجلس الشيوخ على مشروع قانون يتيح للرئيس أوراسيو كارتس، الترشح لدورة رئاسية ثانية، وهو إجراء شق التحالفات الحزبية والسياسية، فانضم قسم من الحزب الحاكم إلى المعارضة، فيما أيد القيادي في الحزب الليبرالي الرئيس الأسبق فرناندو لوغو، قانون التمديد، ما جعله عرضة لانتقادات حزبه وعدد كبير من مؤيديه.
إصرار الرئيس كارتس على مشروع التمديد صعّد حدة الأزمة التي ترافقت مع احتجاجات شعبية واسعة في عدد من المدن، وأدت إلى إحراق مقر مجلس الشيوخ وإشاعة حال من الفوضى العارمة خصوصاً في العاصمة أسونسيون، الأمر الذي استدعى تدخلاً من الكنيسة الكاثوليكية التي دعت الأطراف إلى الجلوس إلى طاولة واحدة والاتفاق على صيغة تقي البلاد شر المواجهة.
وجد كارتس في دعوة الكنيسة فرصة لتهدئة الساحة الشعبية والسياسية دون أن يتراجع فعلياً عن قراره المضي قدماً في الترشح لدورة ثانية، مستخدماً طاولة الحوار لكسب المزيد من الوقت وتنفيس الاحتقان الشعبي ومحاولة جذب بعض السياسيين المعارضين إلى صفه، الأمر الذي دعا عدداً من قياديي المعارضة إلى الانسحاب من الحوار. وكان أبرز هؤلاء رئيس مجلس الشيوخ روبرت أزيفيدو، الذي وصف كارتس بالمخادع، مشترطاً إلغاء التمديد كشرط أساسي للعودة إلى المشاركة في جلسات الحوار الوطني.

بدأت الولايات المتحدة تنقلب على كارتس بعد ضمانات من المعارضة


على الصعيد الدولي، سارعت الولايات المتحدة في الساعات الأولى من اندلاع الأزمة إلى إدانة إحراق مقر الكونغرس، داعية رئيس الجمهورية إلى الشفافية في التعاطي مع الآليات الدستورية، وهو ما فُسر على أنه دعم مبطن لأكثر الرؤساء قرباً من الإدارة الأميركية وأكثرهم صداقة لإسرائيل التي يتولى قسم من رجال أمنها حراسته منذ تولى رئاسة الجمهورية عام 2013. لكن المعطيات الجديدة التي وصلت السفارة الأميركية في أسونسيون حدّت الحماسة تجاه بقاء كارتس، ما استدعى إجراء اتصالات مباشرة مع عدد من قياديي المعارضة لتحاشي سقوط الرهان الحالي، إذ لا تحتمل أي إدارة خروج الباراغواي من بيت الطاعة الأميركي، ولو لأيام معدودة.
الانقلاب الأميركي على الحليف السابق (أوراسيو كارتس) أظهرته صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير نشرته في عددها الصادر أمس، وأكدت فيه أن الرئيس الحالي للباراغواي يقود كبرى عمليات تهريب السلاح والسجائر والكحول، وأنه أنشأ مصرفاً في بريستول لإدارة العمليات بسرية. واتهمت الصحيفة كارتس بأنه يدير هذه العمليات في أميركا الجنوبية والولايات المتحدة على حد سواء.
والجدير ذكره أن «نيويورك تايمز» استخدمت المعطيات نفسها التي نشرتها «ويكيليكس» عام 2010 في وقت شديد الحساسية، ما يشير ــ كما يقول مصدر سياسي مطلع ــ إلى سحب واشنطن البساط من تحت كارتس، وذلك بعد «تلقيها ضمانات من أطراف سياسية معارضة وعقب قناعتها الكاملة بأن الأغلبية الشعبية باتت في المقلب المناهض»، لكن المصدر نفسه أكد، في حديث إلى «الأخبار»، أن «إمكانية تمرد كارتس واردة»، وأن إصراره على الترشح وتجاهل الرسالة التي وجهت إليه من واشنطن قد يفتح الأبواب أمام خيارات شديدة الصعوبة.