لم يكن يتوقع المتعاقد العسكري مايك دوغيرتي أن تنتهي المهمة «القومية» التي دفعه مردودها المادي المغري إلى أن يحزم حقائبه ويسافر إلى بلغاريا من دون طرح أسئلة، وهو يصارع الموت على السرير نفسه الذي لفظ فيه صديقه فرانسيس نورويلو، أنفاسه الأخيرة.
«لماذا أنت هنا؟ من أعطاك الإذن بالدخول إلى بلادنا واستخدام الأسلحة العسكرية؟»، سأله المترجم الذي دخل برفقة ضابط في الاستخبارات، في غرفة أحد مستشفيات ثانية كبرى المدن البلغارية.
في تلك اللحظة في ربيع عام 2015، أدرك الجندي الأميركي المتقاعد، بعد أن ساعدته الشظايا التي اخترقت جسده بالتهرب من أسئلة الضابط، أنه ببساطة، لا يعرف شيئاً.
فبعد أيام من وصول دوغيرتي، وصديقه الجندي المتقاعد في البحرية الأميركية، وزميلهما جيري باركر إلى بلغاريا، وفيما كانوا يختبرون الأسلحة في مجمع عسكري تابع لشركة «في إم زد سوبوت» الحكومية، سبّب خلل تقني في قذيفة «آر بي جي» انفجاراً، ذهب ضحيته نورويلو، الأب لطفلين، وأدخل المتعاقدين الآخرين المستشفى.
يؤكد دوغيرتي في حديث مع الصحافي الأميركي آرام روستون، أن «كل ما أعرفه أن مهمتنا في بلغاريا جاءت في إطار البرنامج السرّي لتسليح المعارضة السورية وتدريبها». وفي التفاصيل، ينقل روستون في مقال نشره الأسبوع الماضي، عن دوغيرتي قوله إنه قبل شهر واحد فقط من الانفجار، وافق واثنين من رفاقه، بصفتهم «متعاقدين عسكريين» على القيام بهذه «المهمة»، التي أوكلت إليهم من قبل ما يُعرف بـ«سوكوم»، وهي قيادة العمليات الخاصة والسرية للولايات المتحدة، المكلفة من قبل البنتاغون الإشراف على العمليات السرية في جميع أنحاء العالم.
يشير الصحافي في حديث إلى «الأخبار» إلى أنه «على الرغم من أن حادثة بلغاريا ليست سوى حلقة واحدة من برنامج أميركي كبير، إلّا أنها تشكّل تجسيداً واقعياً لفشل البنتاغون في إدارة الملف السوري، خاصةً أن سوكوم وضع جزءاً حساساً منه في عهدة شركة صغيرة عديمة الخبرة، اسمها بيربل شوفل».
وفي خلال السنوات الماضية، كشفت تقارير صحافية أن «سوكوم» منحت شركة «بيربل شوفل»، في إطار برنامج تسليح وتدريب المعارضة السورية الذي تبناه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أكثر من 50 مليون دولار، من ضمنها عقد بقيمة 26.7 مليون دولار لشراء الأسلحة من بلغاريا.

حادثة بلغاريا تشكّل تجسيداً لفشل البنتاغون في إدارة الملف السوري

وتشكّل الأسلحة اليوغوسلافية المُتراكمة منذ ظهور الحركات الانفصالية، النسبة الأكبر في الصفقات الأميركية ــ البلغارية. فوفق دوغيتري، إن القذيفة التي انفجرت يعود تاريخها إلى عام 1984، وإن مستندات القضية التي رفعها وأرملة نورويلو، تشير إلى أن الحكومة الأميركية «رفضت في السابق استخدام هذا النوع من القنابل لأنها خطيرة وغير مستقرة». وأضاف، معاتباً: «كنت أعتقد حقّاً أن كل خطوة نقوم بها جرت الموافقة عليها مسبقاً من قبل واشنطن وصوفيا... ولكني كنت مخطئاً».
ولا يقتصر دور «سوكوم» على العمليات الأميركية فحسب، بل قدّمت واشنطن الدعم «اللوجستي» لصفقات الأسلحة بين دول أوروبا الشرقية ودول في الشرق الأوسط. ففي السنوات الأربع الماضية، كشفت تحقيقات صحافية الغطاء عن بيع دول البلقان منذ عام 2012، أسلحة وذخائر بأكثر من 1.2 مليار يورو للسعودية والأردن والإمارات وتركيا، وصل معظمها إلى مناطق الصراع في الشرق الأوسط. وتشير التحقيقات إلى أن وصول هذه الأسلحة إلى الجماعات المسلحة السورية «المعتدلة وغير المعتدلة»، جرى بـ«مباركة من الولايات المتحدة» التي كانت مسؤولة عن «تسيير خط مستحدث لإمرار السلاح يمتد من دول البلقان، مروراً بدول الخليج والدول المجاورة لسوريا، مثل الأردن وتركيا، وينتهي في مناطق الصراع، مثل سوريا واليمن».
ورصد تقرير لـ«شبكة البلقان للتحقيقات الإخبارية» تصدير أكثر من 68 شحنة من الأسلحة من وسط وشرق أوروبا إلى منطقة الشرق الأوسط بين كانون الثاني عام 2015 وآب عام 2016، وأورد أن «سوكوم» أشرفت على عدد من هذه الشحنات الضخمة «التي نُقلَت بحراً من موانئ كونستانتا في رومانيا وبرجاس في بلغاريا».
وفي بلغاريا، أكّدت الصحف المحلية أنها رصدت هبوط طائرات شحن سعودية وإماراتية في مطارات بلغارية أواخر عام 2014 وفي مطلع عام 2015، ولكنها لم تفهم سبب هذه «الزيارات المفاجئة»، التي كانت الأولى من نوعها منذ عام 1991، إلّا بعد صدور التقرير السنوي لصادرات الأسلحة والذخائر الخاصة بوزارة الدفاع البلغارية، الذي أظهر صفقات تسليح تزيد قيمتها على 85 مليون يورو بين صوفيا والسعودية في 2014.
وشهدت صادرات السلاح في بلغاريا ارتفاعاً كبيراً، إذ إنها بلغت 80 مليون يورو في 2008، و404 ملايين في 2014، و640 مليوناً في 2015. وهذه الأسلحة بدأت، منذ عام 2013، تظهر تباعاً وبكثافة في الميدان السوري.
ردّاً على سؤال عن سبب اختيار بلغاريا كبلد مصدّر أساسي، يوضح الخبير الأمني في «مركز الدراسات حول الديموقراطية» في صوفيا تيهومير بيزلوف، أنه فضلاً عن وجود فائض من السلاح اليوغوسلافي، فإن بلغاريا «تنتج نماذج عن الأسلحة الخفيفة والذخائر روسية، ولكن بكلفة أقل، وبطريقة استخدام أسهل وأبسط». وفي كانون الأول الماضي، اكتُشف مثل هذه الأسلحة البلغارية في مستودعات تابعة للجماعات المسلحة الموالية لتنظيم «القاعدة» في حلب.
وبثّ الإعلام البلغاري، مطلع العام الجاري، مقاطع فيديو صوّرها صحفيون بلغاريون، تسللوا إلى هذه المستودعات قبل تحريرها، تظهر وجود قرابة مليوني قذيفة و4 آلاف صاروخ «غراد»، جميعها بلغارية الصنع. ووفق هؤلاء، فإن هذه الأسلحة صنعتها شركة بلغارية في 2014، و«تكفي لمواصلة القتال في حلب لعامين آخرين».
وكان مركز «كونفليكت ارممنت ريسترتش» البريطاني قد كشف في عام 2014، أن 47 من أصل 161 رصاصة مصنعة بين 2010 و 2014، استخدمها تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، مصدرها بلغاريا. وتتوافق هذه الأرقام مع ما أورده الصحافي البولندي ميشيل كوت، في مقال نشره العام الماضي في «في إم زد سوبوت» الحكومية، حيث قال إن الشركة «ازداد إنتاجها بنسبة 60 في المئة مقارنة مع العام الماضي، وخاصةً تصنيع قواذف (آر بي جي)، فيما كانت على حافة الإفلاس قبل عامين».




في ليبيا أيضاً

هذا البرنامج للتدريب والتسليح ليس الأول من نوعه، إذ كشفت واشنطن عام 2013 أنها ستدرّب ما يصل إلى 8000 جندي ليبي في بلغاريا. وفي ربيع 2014، أعلنت الصحف الأميركية وصول جنديين أميركيين اثنين من أصل 11 إلى ليبيا «لمعالجة المسائل اللوجستية المرتبطة بالبرنامج»، الذي سيستمر بين خمس وثماني سنوات. ولكن مع تصاعد الخلافات في ليبيا، اختفى البرنامج ولم يُعرف مصيره. وفيما يؤكد الخبراء أن التدريبات «لم تبدأ أصلاً»، انتشرت تقارير في خريف 2014، تؤكد عن لسان محليين مشاركة عدد من الشبان «الذين تلقوا تدريبات على حرب الشوارع ومكافحة الإرهاب في بلغاريا، بإشراف ضباط من الولايات المتحدة»، في ما عُرف بـ«عملية تحرير بنغازي»، التي أطلقها اللواء المتقاعد في الجيش الليبي خليفة حفتر.