في روايته «تذكرتان إلى صفورية» (دار الساقي) يرسم سليم البيك خريطة الشتات الفلسطيني، انطلاقاً من المكان كجزء أساسي من الهوية، أو من أنّ الهوية تقتضي، من حيث المبدأ، مكاناً ينتمي إليه المرء. كيف الحال إذاً، بالنسبة إلى الذين ما برحت الأمكنة تسكنهم، في حين، أنّهم يعيشون رحيلاً دائماً؟ يوزع الكاتب حكاية بطله يوسف على ثلاثة فصول رئيسية، يكمن جوهرها، في فصل أخير مؤلّف من صفحات عدّة. إذ أن كلّ سبل السرد تودي إلى صفّورية في قضاء الناصرة. الرواية التي بدأت من صالة الانتظار في المطار تنتهي في المكان ذاته، عبوراً، بلجوء جدته إثر النكبة إلى مخيم اليرموك، وهجرة والده إلى دبي بقصد العمل، حيث سيولد يوسف، ويصير اسمه في جواز السفر الفرنسي جوزيف لدى لجوئه إلى فرنسا في السنوات الأولى لِـ «الثورة السورية». من هنالك، سيفكّر، بعد سنوات من لجوئه، في العودة إلى صفّورية باستخدام جواز سفر فرنسي، عبر «مطار بن غوريون» الإسرائيلي.
يواجه يوسف أزمات التأقلم مع المجتمع الفرنسي، لا سيما في سنتي إقامته الأولى. تأخذ العلاقة مع الإناث أكثر أشكال التأزم نضوجاً وحدّة. إذ يبدو الوصول إلى إحداهن فكرة مسيطرة على تفكيره، أو فكرة أرادها الكاتب نوعاً من جهل الغاية، جهل أمضى البطل حياته فيه.

درس يوسف الأدب الفرنسي في «جامعة دمشق»، بدافعِ «الملل» الذي يترّصد جلّ سلوكهِ؛ سواء في عمله في دبي، حيث انتهى مطروداً أو في فرنسا التي بدا لجوؤه إليها هروباً من واقع المخيم. صَدّر الكاتب لذلك الهروب، عنواناً براقاً، وهو الوصول إلى صفّورية حيث سيكون في فرنسا، أقرب إليها من دبي ودمشق. تبدأ الرواية من تأخره عن موعد الطائرة التي ستأخذه إلى صفّورية، يعود إلى غرفته خائباً، ومحاصراً بمرارة مفادها، أنّ العالم يحول دون عودته إلى قرية جده. لقد كان يوسف من الخيبة إلى درجة، لكن ليا ستدفعه إلى التفكير بالكتابة، لتبرز مقدرة الكاتب على إدارة نصهِ، راوياً عليماً أحياناً، وكاتباً ننتظر معه تقدم الصفحات لنعرف ما سيحدث أحياناً أخرى.
تأخذ الرواية على عاتقها، الحديث بلسان الفلسطينيين الذين اضطروا للخروج من سوريا في سنواتها السوداء، دون إرادة من يوسف الذي كان يتحدث بلسان مجموعة كبيرة من أهالي المخيمات الفلسطينية. لقد كان غريباً في دبي وغريباً وسط أهالي مخيم اليرموك، قبل أن ينسجم مع غربة حقيقية في فرنسا، أو ليتاح له ممارسة غربته الدائمة. يتاح له التفكير بمسألة شائكة، لا بعلاقة شعبه مع المكان وحسب، وإنّما في ذلك المصير الذي يبدو أن لا فرار منهُ، بلجوء متجدد كلّ ثلاثين سنة.

كلّ سبل السرد تودي إلى صفّورية في قضاء الناصرة

في حين أنه، كلما ابتعد عن فلسطين، بات تعريفه بنفسهِ أكثر عموميّة. لقد كان في مخيم اليرموك ابن صفّورية، وفي دبي ابن مخيم اليرموك، أما في فرنسا، فهو من فلسطين. لكنه في حقيقته الناصعة، لم يكن سوى «مار بين الأمكنة» ومدافعاً عن انتماءٍ لم يختبرهُ. تشتت الأمكنة أدى إلى تشتت في الهوية. أما الانفصال عن أماكن الذكريات، فأدى إلى ضياع التراكمات التي «يتشكل منها الوطن». لقد كانت أكياس الكتب التي تركها في دبي، والكتب في غرفة فوق السطح في مخيم اليرموك، مدعاة لتفكير يوسف، بإقامة مكتبة دائمة في فرنسا، باحثاً بشكل رمزي عن حياة مستقرة في وطن بديل، نخاله فرنسا، قبل أن تنضج قصة يوسف مع ليا. نعرف هنا، أنّه وجد في ليا انتماءً خالصاً لهُ. تتشكل علاقته مع ليا عبر الفصول الثلاثة، إذ سيراها صدفة في موقف الباص، يضيعها مرتين، وتضيعه كذلك مرتين، قبل أن يجتمعا بطريقة يبدو فيها كلّ منهما كأنّما خلق للآخر. بعدما بدأ باستيعاب رحيل الطائرة من دونه، يعترف يوسف لليا بأنّه لو اختار بين صفّورية من دونها وبينها، لكان اختارها هي. يذكر جيداً ساقيها وهي جالسة في المترو، وتجوالها عارية في الأستوديو الذي ينتقل إليه بعد معاناة الغرفة الضيقة، إذ كانت بتجوالها تبارك المكان. لقد وجد نفسه، يستبدل الهوية التي كان يبحث عنها، بهذهِ المرأة، ليا، الفرنسية.
يقع يوسف على الكثير من المفارقات. رغم خروجه من الشرق من دون اكتساب موروث شرقي بالمعنى الصارم، إلّا أنّه بقي حذراً إزاء الكثير من سلوكيات مجتمعه الجديد، أهمها نظرته المحافظة إلى ممارسة الجنس، والتي تزعم بتفوق الرجل، ووجود النساء كفاعل ثانٍ. يصحو بانتهاء محاولته الخلاص من درب لجوئه وأهلهِ عبر الكتابة، يصحو على حقائق، الانتظار في المطارات، والحقائب المتأهبة لسفر دائم. حقائق تأتي الكتابة لتوثيقها بابتكار مسارات تفضي إلى الحاجات. لذلك، كانت ليا، هي الحل الذي اقترحه الكاتب سليم البيك لبطل حكايته يوسف، إنقاذاً لهُ من مصير شاسع، هو الوطن الذي يكاد ينحصر في صفحات الكتب وفي الآمال والانتظار الذي لا ينتهي. هكذا لم يكن استبدال تذكرته في الفصل الأول بتذكرتين له ولليا، سوى إشراكها في شرك لجوئه.