يفسّر البعض عملية رفع علم إقليم كردستان في مدينة كركوك شمال البلاد، في الأيام الماضية، بأنه عملية ابتزاز من قبل إحدى القوى السياسية (حزب الاتحاد الكردستاني، برئاسة جلال طالباني) من المكوّن الكردي في وجه حكومة بغداد الاتحادية. لكن الرأي في العاصمة قد يكون مغايراً تماماً.
ما حدث ليس وليد اللحظة، بل يتعدّى حدود «الابتزاز»، ويتّصل بما يجري في الشمال الغربي العراقي والشرق السوري. بمعنى آخر، إن ما جرى في كركوك ليس إلا «إرهاصات» تحضيرية لمرحلة «ما بعد الموصل»، على المستوى العراقي أولاً، ومرتبط بطبيعة المشهد الذي سيتكوّن في المرحلة المقبلة، على المستوى الإقليمي ثانياً.
لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، فمن المبكر الحديث عن الصورة أو طبيعة المشهد الذي ستنحو إليه الأمور، لكن ــ وفق أكثر من مصدر متابع ــ فإن العراق سيكون أمام مرحلة معقّدة جدّاً، وحساسة في الأشهر القليلة المقبلة، تبدأ مع استعادة مدينة الموصل، ولا تنتهي مع إعلان نتائج الانتخابات النيابية المقبلة، في نيسان 2018.

سيكون العراق أمام مرحلة معقّدة جدّاً، وحساسة في الأشهر القليلة المقبلة

يعود السبب في ذلك إلى أن المشاكل المتوقّعة في المرحلة المقبلة ستكون ضمن البيت الواحد على مستوى المكوّنات العراقية المختلفة، الأمر الذي سيفرض واقعاً مغايراً عن هذا الموجود حالياً، كإبرام تحالفات جديدة نتيجة الضغوط الإقليمية والدولية للملمة البيوتات السياسية المشتّتة، خصوصاً أن جميع القوى لم تعد تأبه للتحذيرات الدولية بأن البلد على حافة الانهيار.
وفي شمال البلاد، فإن القوى السياسية الكردية الخمس، رغم اختلافها في بعض تفاصيل العملية السياسية، فإنها مجتمعةً «في مكان ما» على رأي واحد، وهو أن «موعد الانفصال قد حان». فمع انطلاق «عمليات قادمون يا نينوى»، سرت شائعاتٌ عن تنازل رئيس الحكومة حيدر العبادي لرئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني عن بعض المناطق التي تستعيدها قوات «البيشمركة» برعايةٍ وضغطٍ أميركيين في آن واحد (راجع «الأخبار»، العدد 3036)، ما أسفر عن قضم أربيل لأراضٍ جديدة.
استفاد البرزاني من هذه الصفقة، وبقيت عينه على كركوك ونفطها، باعتبارها جزءاً من المادة 140 من الدستور، والتي تنصّ على تطبيع الأوضاع في المحافظة والمناطق المتنازع عليها (بين العراق والإقليم)، وإعطاء الحقّ لأبناء تلك المناطق في تقرير مصيرها، سواء ببقائها وحدة إدارية مستقلة، أو إلحاقها بإقليم كردستان العراق عبر تنظيم استفتاء. لكن للبرزاني حسابات أخرى، فقد حرص على الاستفادة القصوى من نفط كركوك، مبرماً اتفاقيات بيع النفط لأنقرة، مقابل أن يكون مردودها محصوراً فقط به وبحاشيته.

طالباني: كركوك لي

أمام هذا المشهد، وجد جلال طالباني نفسه، بالتزامن مع الظرف الإقليمي المستجد، أمام فرصةٍ حقيقية لينتزع كركوك من قبضة البرزاني من جهة، وضمّها إلى مناطق نفوذ السليمانية من جهةٍ أخرى. فيتمكّن حينها من الاستحواذ على مناطق نفطية، هو أساساً بحاجة إليها، في ظل حاجته الملحّة إلى مردود مادي «مستمر» له ولحزبه وقاعدته الجماهيرية.
حاول حزب طالباني جسّ نبض بغداد، فعمد إلى إجراء «بروفا» كانت بسيطرة مسلحيه على مقر شركة «نفط الشمال» في كركوك، الشهر الماضي، حيث أوقفوا كافة الأعمال فيها، وأرسلوا العمّال إلى منازلهم. حينها، بدأ الإعداد جديّاً لعملية تمهيد «استقلال كركوك»، بشرط أن تكون على مراحل، أي الاقتصار المرحلي فقط على رفع العلم الكردي، لتكون رسالةً واضحةً من السليمانية ــ وبرضى كافة الأطراف الكردية ــ أن «ما بعد الموصل» مختلفٌ عمّا قبله، وأن الأكراد باتوا جاهزين لمثل هذه الخطوة.
المشهد هنا اكتمل. الأكراد يدعمون طالباني، واصفين خطوته بـ«القانونية والدستورية، التي كان من المفترض أن تكون منذ 2003». لم يخالف رفع العلم الدستور العراقي، بتعبير أكثر من مصدرٍ كردي، لكن أحدهم رأى أنه «كان من المستحسن إجراء اتفاق مع جميع مكوّنات كركوك»، إلا أن هذه الخطوة «لا تضر بالتعايش السلمي في المدينة». لكن في النقاشات الداخلية، يعيد متابعون ما حدث إلى صراع داخلي في البيت الكردي الواحد. ومن المؤكّد لدى تلك المكوّنات أن الخطوة تهدف إلى فرض إرادة حزب طالباني في كركوك، وإجبار حزب البرزاني على التسليم بأن الأمر لحزب «الاتحاد». فالتوسّع الذي جاء شرق الموصل لأربيل، مقابله نفوذ للسليمانية في كركوك.

بغداد تتحرّك؟

من العاصمة، دعا الرئيس فؤاد معصوم جميع القوى في كركوك إلى احتواء التوترات، مطالباً الحكومة بتنفيذ بنود المادة 140 الخاصة بمستقبل المدينة. أما اللجان الخاصّة بالمسؤولين العراقيين، فدعت القيادات إلى وقفة حقيقية كي لا تصبح كركوك جزءاً من إدارة السليمانية. وترى تلك الفرق ضرورة اللجوء إلى «المحكمة الاتحادية» لإبطال تصويت مجلس المحافظة، قبل بدء انتخابات مجالس المحافظات، وإلا فسيخسر العراق كركوك في الوضع الراهن.
لكن الفرق نفسها ترى أن الركون إلى المحكمة لن يجدي نفعاً، والأمور تنحو باتجاه تصعيدٍ سياسي، وعقوبات مالية من بغداد تجاه كل دائرة ترفع علم كردستان من دون موافقتها، ومحاسبة المسؤولين عن مثل تلك الخطوات. كذلك، فإن خيار الذهاب إلى السفارات الكبرى للملمة الاشتباك القائم مطروح، فيما لا تستبعد أيضاً إمكانية تدهور العلاقات وصولاً إلى التصادم المسلح بين الفصائل الموالية لبغداد مع قوات «البشمركة» و«الأسايش». وأمام احتمال التدهور، فإن فرق المستشارين يصرّون على الحكومة لاتخاذ موقف جدّي بشأن المسألة قبل أن تتحول إلى قضية مجتمع دولي.
وإلى أن تبتّ بغداد قرارها في كيفية معالجة الأزمة وحدود التحرّك، فقد كان لافتاً أمس إعلان قائد قوات «البشمركة»، جنوب كركوك، وستا رسول، أن «المدينة عادت إلى إقليم كردستان من الناحية العسكرية، لكنها لا تزال غير محسومة من الناحية الإدارية»، معتبراً أن «رفع العلم حق طبيعي للشعب الكردي». وأضاف أن «العلم رفع بتضحيات القوات الكردية»، الأمر الذي فسّرته قيادات عسكرية عراقية بأنه إعلان جاهزية حربية، خصوصاً إذا ما تقدّمت القوات إلى تلك المنطقة لاستعادة هيبة الدولة... فـ«طبول الحرب قد قرعها طالباني وسيدفع ثمنها البرزاني».